أستأذنكم بعد هذه السياحة المختصرة والمبسترة بالضرورة حول كتب «المذكرات السياسية» و»السير الذاتية»، التي أردتها مقدمة لهذا الحديث تليق بمقام لقائكم.. من جانب، وأرادها وعيي الباطني من الجانب الآخر - مذ قبلت دعوة معرض الكتاب للحديث عن تجربتي في كتابة السيرة الذاتية - محطة ألتقط فيها أنفاسي من حرج الحديث - للمرة الخامسة - عن نفسي أو سيرتي.. وتجربة كتابتها.

وللحقيقة.. لم يكن في الأصل شيء من ذلك.. بداية.

ولكن البداية.. كانت لشيء آخر، ولد ذات مساء على رصيف مقهى «الراندفو» بشارع التحلية بمدينة جدة.. حيث كنا نلتقي مع صحبة محدودة من الأصدقاء بعد العاشرة من مساء كل سبت من شهور خريف عام 2001م، بعد مرور عام على إقالتي من مجلة الإعلام والاتصال.. وبتنسيق وترتيب من أخي الأصغر وصديقي الصحفي المحظوظ والمنحوس بقدر متساو: الدكتور خالد باطرفي الذي كان يعمل آنذاك مديراً لتحرير العدد الأسبوعي من جريدة المدينة، وقد رغب إليّ في واحدة من تلك الأمسيات أو «السبتيات» (أصبحت «سبتية» أسبوعية منذ تلك الأيام وإلى يومنا هذا) أن أكون ضيفاً ل «باب» جديد استحدثه.. هو: (فلان.. يتذكر)، وأنه اختارني لأسبابه.. في أن أكون أول ضيوف ذلك الباب.. في أربع حلقات، لتغطي أسابيع شهر رمضان من ذلك العام. فقبلت بحكم العلاقة الحميمية التي تربطني به.. وبدأنا تلك الأحاديث المسجلة عن حياتي وطفولتي والصحافة والناس والأدب والفن.. بشكل زمني متسلسل، تعينني عليه ظروف جلستنا الطويلة على رصيف المقهى إلى ما بعد منتصف الليل، فكان يقوم بتفريغ التسجيل بعد ذلك، ثم يرسله إليَّ لتصحيحه وإضافة ما قد يحتاجه هذا التذكر من إضافات أو تواريخ، أو لإجراء أي حذوفات قد أرتئيها.. ثم يتولى الإشراف على إخراجها ونشرها.

كان النجاح الذي فاق توقعه.. دافعاً لأن يطلب مني استكمال القصة والقصص الصغيرة التي كانت تتناثر بين تلك الذكريات.. حتى أكملنا نشر اثنتي عشرة حلقة.. على مدى شهور ثلاث. فكانت دهشتي.. أن بعضاً من الأصدقاء والقراء ممن فاتهم بعض تلك الحلقات، كان يسألني أن أزوده بها، ولما توسعت دائرة طلباتهم.. عدت إلى «إدارة الجريدة» لتساعدني على تأمينها.. لأكتشف أنها جمعت صفحاتها مرتبة على شكل كتاب، وأنها أخذت تبيعها ل «طلابها».. بمائة ريال للنسخة الواحدة.. الأمر الذي ساءني بأضعاف أضعاف ما أسعدني.

هنا.. بدأت فكرة جمع الحلقات التي كنت قد كتبت معظمها كتابة مباشرة.. دون سؤال يتبعه جواب، وإضافة ما يستوجبه سرد بقية القصة. إلا أنني توقفت متسائلاً حائراً: هل جاء فعلاً وقت كتابة قصة حياتي ككاتب صحفي في هذا الوطن ونشرها.. أم أنني أتعجل الأمر؟ لقد كنت آنذاك ألامس نهاية الخمسينات من عمري.

حسمت حيرتي مع التوقيت.. إذ لا فرق بين ما بدا لي أنه التوقيت المناسب لكتابة المذكرات أو «السيرة» وهو سن السبعين وما بعدها، وليس ما أنا عليه ساعتذاك. باعتبار أن المذكرات أو السير لا تكتب أثناء التجارب ولا قبلها، ولكنها تكتب بعد امتلاء العمر تجربة وقرب فروغه زمناً، ولما يحن ذلك.. كما بدا لي. وأكملت القصة أو ما يمكن من إكمالها، إذ إنني غيبت صفحات مهمة وأسماء كبيرة من حياتي.. لو أنها كتبت ونشرت، لأعطت هذه «السيرة».. ذلك «الزخم» من الأسرار الذي يتوجب وجوده عادة في كل سيرة، ويتطلع إليه كل قرائها. لقد فعلت ذلك بإرادتي حذراً.. وربما خوفاً مما تعلموه وأعلمه. لأقع في حيرة أخرى: هل أنشر ذلك الذي كتبته.. وأعدت مراجعته بدل المرة مرات؟

ثم أعدت السؤال على نفسي بطريقة أخرى: هل في هذا الذي كتبته وأعتزم نشره ما يستحق أو يفيد القارئ..؟

بين ال «نعم» المتراخية.. وال «لا» الحاسمة، كنت أعاود قراءة ما كتبت ب»حيدة» وتجرد.. مرة بعد أخرى حتى أصل إلى قرار نهائي حاسم.. إما النشر أو عدمه؟!

ثم.. تغشاني يقين بعد عامين أو ثلاثة أعوام، بأن ما كُتب يستحق النشر.. لأقوم بإصداره في الصيف ما قبل الماضي (2008م) عن طريق الدار التي أملكها: (دار المرسى للنشر والتوزيع).

ولكنني بعد أن طبعته.. وأصبح بين يدي، امتنعت عن توزيعه أو الاتفاق مع أي شركة للقيام بمهمة توزيعه.. وعدت إلى «أرجوحة» أخرى هي: التوزيع.. أو عدمه؟ مستودع الدار.. أم مكتبات مدن المملكة..؟

إلا أنني هذه المرة لم أركن إلى أحكامي الشخصية بعد أن وقعت أسير «فوبيا» القلق من ذكر أسماء زملاء ورفاق صحبتهم وصحبوني.. تصريحاً حيناً، ورمزاً حيناً آخر.. ممن تضمنتهم «السيرة»، بل انتهيت إلى أن أحكِّم أحد أصدقائي.. ممن أثق بأحكامهم المتوازنة والشجاعة.. فكان هو أخي وصديقي الأستاذ قينان الغامدي رئيس تحرير جريدة «الوطن» الأول والأسبق الذي عرضت عليه قراءة الكتاب قراءة متمهلة متفحصة، إذ إنه.. وعلى ضوء ما يقرره سيكون مستقبل الكتاب.. إما التوزيع على المكتبات أو نسيانه في المستودعات.

فقال: أمهلني خمسة أيام..؟

قلت: هي لك.. ليعود لي بعدها مهللاً، وهو يقول: سر على بركة الله..!

وسرت على بركة الله.. بادئاً بتوزيعه على مستوى الأصدقاء الخلص، الذين كانوا قريبين من الكتاب و»لكلكاته» فكانوا مئة، لتأتيني ردودهم وتهنئاتهم وتعليقاتهم.. بل وتصويباتهم بعض الأخطاء السياسية والدبلوماسية والمطبعية التي وردت فيه، فقد صوب المهندس سامي مقبول مدير عام مطار الملك عبدالعزيز السابق.. قصة السياسي الأمريكي هيوبرت هيمفري الذي كان نائباً للرئيس ليندون جونسون وليس مرشحاً للرئاسة الأمريكية أمامه، كما صوب لي «ورَّاق» الرياض الأعظم الأستاذ محمد القشعمي التاريخ الذي وقعت فيه حادثة المحمل المصري الشهيرة في «منى».. وأنها في 1346ه وليس 1364ه، كما صوب لي الشيخ الأديب عبدالمقصود خوجة صاحب صالون الاثنينية الأشهر.. الأسباب التي أدت إلى وفاة معالي الشيخ محمد عبدالله علي رضا سفيرنا الأسبق في باريس.. وأنها نوبة قلبية فاجأته وليست حادثة مرورية، بينما طلب مني الأديب والكاتب الفنان الأستاذ عبدالله الماجد الذي هجر الصحافة إلى النشر.. القيام بزيارة جديدة لتلك الأماكن التي جاء ذكرها في السيرة عن مدينة القاهرة التي أحبها وسكنها، وبما يذكر بسمفونية العودة إلى الأماكن القديمة التي لا تبرح أفئدة الأدباء والكُتَّاب.. للكتابة عنها مجدداً بعد مرور أكثر من أربعين عاماً عليها في كتاب تصدره «دار المريخ»، وأن داره ستتحمل تمويل هذه الفكرة، بينما بعث لي الصحفي الكبير والكاتب الساخر المتميز الأستاذ علي العمير.. برسالة يسألني فيها سؤال من يعلم لا من يجهل: أليس فلي لياليك.. غير ليلتين: ليلة حفل أم كلثوم في سينما ريفولي.. وليلة زفافك؟!! بينما طلب مني الأستاذ قينان أن تتحول هذه السيرة.. إلى ثلاثة سير: سيرتي الخاصة.. وسيرتي في «الصحة».. وسيرتي في الإعلام، لتتلاحق عليَّ بعد ذلك دعوات تقديم الكتاب للإعلاميين والأدباء والفنانين.. في أكثر من مكان. بدءاً ب «دعوة» فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة ومهندسيها الأستاذين عبدالله باحطاب والصحفي الأديب محمود تراوري، فدعوة معالي وزير الإعلام الأول.. الدبلوماسي والكاتب والمفكر والفنان: معالي الشيخ جميل الحجيلان.. في منزله لتقديم الكتاب لصفوة الصفوة من أعلام مدينة الرياض وأدبائها وكُتابها وصحفييها. فكانت ليلة من ليالي العمر.. بحديث معاليه ووقفاته واسترجاعاته لأيام يتم صاحب السيرة وأحزانه.. وانتهاءً باقتراحه في إمكانية أن تتحول هذه السيرة.. إلى فيلم سينمائي، فدعوة صالون الأستاذ محمد سعيد طيب.. الذي تحولت «ثلوثيته» إلى جمعية، وأخيراً دعوة صاحب الاثنينية.. لتقديم الكتاب لحضور الاثنينية، وأخيراً.. هذه الدعوة الخامسة للحديث عن الكتاب، التي ألبيها.. والحياء يملؤني. يقلقني ويخجلني.

لقد نجحت «السيرة».. وأعيدت طباعتها مرة أخرى.. وهي في طريقها للطبعة الثالثة؛ ليتأكد لي للمرة الألف أو المليون.. بأن أعظم قصة يكتبها الكاتب فعلاً هي قصة حياته.

وبذات القدر تتأكد لي كلمة الكاتب المبدع والفنان الأستاذ توفيق الحكيم بأن «أسوء من يتحدث عن الكتاب.. هو كاتبه».