هكذا تبدو الذات في علاقتها بالعالم المنعكس في الكتابة مجرد نتيجة لغتها كما أشرت في المقالة السابقة. ومن هنا تظهر أهمية وقوف مالارميه أمام العالم متسائلاً كأنه أمام نص أو صفحة مكتوبة، وليس كأنه أمام مشهد يقول ذاته دفعة واحدة. فرق بين ما يُقال وما يمكن أن يُقرأ مكتوبًا. ومن هنا كان سؤاله (أنا أكتب إذًا أنا أفكر من أكون) حيث الكوجيتو الوجودي هنا متلازمة الفكر والكتابة: أن تفكر يعني أن تكتب، وأن تكتب أنت تعلم أو هذا سبيلك للعلم بالوجود. يقول مالارميه: "إذا كانت الحياة تتغذى من ماضيها الخاص أو من موت مستمر في الحاضر فإن العلم سيجد ثانية هذا الأمر في اللغة: الأخيرة بتمييزها الإنسان عن بقية الأشياء ستعود إلى تقليد الأشياء من جديد، لأنها في الجوهر مفتعلة أكثر منها طبيعية، ومفكرة أكثر منها محتومة، وإرادية أكثر منها عمياء... بعثور العلم داخل اللغة المنشودة على تأكيد ذاته فعليه أن يغدو الآن تأكيدًا للغة."(1)
وعلى هذا الأساس يقرأ (سوليرز) (مالارميه) حيث يخرج بالقول إن العلم ليس شيئًا آخر غير النحو التاريخي والمقارن في مسعاه ليصبح عامًا، وليس كذلك شيئًا آخر غير البلاغة. ويرى أن النحو "فلسفة مضمرة وخاصة وهيكل للغة في الآن نفسه." مع التأكيد على التفريق بين الكلام والكتابة ؛ حيث الكلام صفة طبيعية وفورية مرتبطة بدورة العملة النقدية ف"فعل الكلام ليس له من عبور إلى واقع الأشياء إلا تجاريًا." بينما الكتابة لها صفة جوهرية، وهذا هو مجال الأدب باعتباره كتابة مولدة مستعادة مع الكتابة الآلية واللاواعية.
وحسب (مالارميه): "كل شيء يتلخص في علم الجمال والاقتصاد السياسي" وعلم الجمال وفق هذا الرأي ظاهرة تتكون من "اقتصاد اللغة، والفكر نفسه ليس قابلاً للفهم بغير عبارات الاقتصاد. "يقول (سوليرز): "وسنرى بأن تفكير (مالارميه) المنصب على مفاهيم المسرح والاحتفال والخيال يعد في هذا المجال من أكثر التأملات صرامة ودقة برفضه للفقر المميز لنمط معين من الاقتصاد العاجز عن تنظيم لعبه وحصته الاستهلاكية."(2)
ويرى (سوليرز) أن (مالارميه) لا يرى اللغة مجرد أداة تمثيلية بسيطة، بل يرى أن الكتابة تقف جنبًا إلى جنب مع العالم بالمعنى الذي يجعل من العالم كتابة (حسب عبارة سوليرز)، وهذه الكتابة قادرة على إظهار العالم و التواصل معه (لاحظ هنا النفس الأرسطي في العمق من فكرة محاكاة الطبيعة وإكمالها منظورًا إليها من زاوية حادة !) يقول (مالارميه): "لقد وُجدت الطبيعة ونحن لا نضيف إليها شيئًا، نحولها فقط إلى مدن وسكك حديد، وجملة من الاختراعات التي تؤثث فضاءنا المادي. وكل ما يمكننا أن نفعله دومًا هو فقط القبض على العلاقات، بين زمن وآخر، أكانت نزره أم جمة، تبعًا لبعض الأوضاع الداخلية التي نريد أن نوسع العالم أو نختصره حسب رغبتنا."(3)
وحسب هذه الرؤية فإن العالم يقدم نفسه كنص أو كفضاء من الدرجة الثانية أو كانعكاس شبه مرآوي على افتراض أن اللغة تضطلع بوظيفة غاية في السلبية. ويعلق على هذا (سوليرز) بقوله: إن اللغة حينها لا تعود تسمي الأشياء بعينها، ولكن فقط لتشير إلى غياب ما نسميه.
إذًا إذا كانت وظيفة اللغة (أو الكتابة) لا تسمي الأشياء، وإنما تشير إلى غياب مانسميه فنحن لا نحتاج إلى الكتابة إلا لتكون عوض الحضور. الغياب يضغط علينا بعوزه ؛ فنعوضه بكتابة تستحضر ما هو غائب. الواقع بعوزه وبفراغه يطلب الكتابة، ولذلك إذا كان الناس مشغولين بالحياة واقعيًا وبامتلاء حقيقي وحضور كامل فهم يكتبون الحياة فعليًا، ولا يعودون بحاجة إلى الاستعاضة عن الواقع بالكتابة. كأنما الكتابة مؤشر النقص والغياب، وهي دليل الفقد والعوز، إنها تعويض وعالم افتراضي يُحل الكتابة محل الحياة ؛ لتصنع عالمًا عوض العالم الذي غاب !! وكأنما الحياة والواقع الحقيقي حلم يتلاشى، وتأتي الكتابة كصحو يقيد تفاصيل ما انسرب: يحكيه، ويوازيه، يتأمله أو يحلمه من جديد، أو يعيد تشكيله والحلم به وفق معطيات محلومة مرة أخرى. الكتابة إعادة تدوير، حتى لا يتحول تاريخ المرء إلى مجرد روزنامة أو نفاية أيام!!
1 - فيليب سوليرز، مقالة بعنوان "الأدب والكلية: مرآوية مالارميه: هل ندرك ما يعنيه فعل كتب؟" مجلة كتابات معاصرة العدد 71 ص 64 .
2- السابق ص 64
3 - السابق ص 65
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
Rafef_fa@maktoob.com