مثلث السفر والانتقال من [السعودية إلى العراق ثم العودة إلى السعودية]، لن يشير إلا إلى تجربة اعتيادية للرحلة ما بين نقطة الجذور (الحياتية والثقافية) صوب المحيط، ومن ثم العودة إليها، لكن حين نقرأ في مثلث الرحلة ذاته أسماء هذه المدن (الأحساء- النجف- الدمام)، فإنه لا بد أن يلفت انتباهنا فيه وجود مدينة «النجف» كرأس لسهم الرحلة!
وبدون أن نقرأ سيرة «محمد العلي» الباكرة، أو مشاهدة حواره الضافي مع محطة «إل بي سي»، الذي أضاء فيه الكثير من أبعاد تلك المسيرة الحياتية والفكرية الطويلة، فإن سيميائية مثلث الرحلة سيدلنا بوضوح على أن فتى من الأحساء، اتسم بالتميز في دراساته الدينية (التراث) قد أراد له أهله أن يواصل مشواره المعرفي في مدينة «النجف» وفي حوزاتها الدينية المتخصصة.
لكن الفتى بعد أن تمكن من عدته المعرفية آب إلى الوطن، وبدلاً من العودة إلى مضارب الجذور الأولى (الإحساء) التي توسمت فيه « رمزية « عالم ديني،استقرّ في الدمام ولم يعد إليها!!
لماذا إذن حدث ذلك؟
قبل أن نبدأ بمقاربة الإجابة،سنلقي نظرة خاطفة على شيءٍ يسير مما حفل به «لسان العرب» عن هذه المدن:
«الإحساء»: من ( الحسي - تجمع الماء ) وقد أورد لسان العرب في مادة «الحسي» أنه: سهل من الأرض يستنقع فيه الماء،وأورد أيضاً: وقد رأيت في البادية أحساءً كثيرة..، ومنها أحساء «بني سعْد» بحذاء هجر وقراها،وهي اليوم دار القرامطة وبها منازلهم».
فللإحساء إذن محمولها الدلالي عبر التاريخ، فهي منطقة زراعية خصبة،تتدفق فيها العيون، وتحفل بحضور سياسي وأدبي عبر عصور التاريخ.
«النجف»: جاء في «لسان العرب» أن النجف تعني التلّ، ونقل عن الأزهري: والنجفة التي بظهر الكوفة، وهي كالمسنّاة تمنع ماء السيل (ويقصد ماء الفرات) أن يعلو منازل الكوفة، ومقابرها.
لذا فإننا سنرى في هذا التوصيف الحغرافي دلالات عميقة لمكونات هذه المدينة التاريخية،التي غدت حامية لرمزية «الكوفة» السياسي، وقبورها كمرموز للحفاظ على فاعلية «التراث الديني»، والعمل بعد ذلك على تثبيت موقعها كمدينة «مقدسة» في وجدان الطائفة الشيعية في العالم الإسلامي عبر العصور.
«الدمام»: يشير لسان العرب إليها من المعنى المشتق من «الدّم»، ويورد ذلك بصيغ متعددة تؤكد على أن «الدمام»، هي الطلاء بحمرة أو غيرها!
ولذا لا تحفل الدمام بمحمول دلالي تاريخي كمكان أو مدينة أو ثقافة محددة،وإنما تكوّن اسمها كمكان حديث ومتحرر من سطوة التاريخ، يحاول لوحده أن يبحث عن تحقيق مسمّاه، في حياة جديدة، فتحت عينيها على مرحلة تدفق النفط في المنطقة الشرقية من المملكة،وتشكلت فيها حواضن طموح ينزع إلى المستقبل والحداثة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
هذه الإلماحة المقتضبة إلى المحمول الدلالي لتلك المدن في التاريخ، يشجعنا على التساؤل ثانية،حول:
لماذا ترك «العلي» المقام في مدينتين عابقتين بالتاريخ والتراث،ليستقر في مدينة «لا تاريخ لها»؟
ستجيبنا سيرة «محمد العلي» عن ذلك تدريجياً، فيما يلي:
دراسته في «النجف» قد عمّقت معرفته بالتراث، وهذه المعرفة، غالباً، ما تعمل على تعزيز القناعات الموروثة (وفق نهجها السلفي) لدى الدارس من أجل أن تصبح فضاءً حياتيا يمارس من خلاله تحقيق قيمة وجوده الشخصية والرسالية، لكي يكون حارساً أميناً لمرتكزاتها واستمرارية حضورها.
غير أن تلك المعرفة الخصبة، بالحقل الذي يشتغل عليه وفيه الدارس، قد تحفزه من جهة أخرى لطرح أسئلة جذرية مغايرة لمكوناتها واستهدافاتها، وقد ألمح «محمد العلي» في محاضرته عن «الموقف من التراث» إلى ذلك بطرح التساؤل التالي: [ولكن.. هل أدع إيماء التاريخ يأخذ ببصري حيث يريد؟ لا، وإلا أصبحت دون إرادة يمكنها أن تختار].. (محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 281).
وحين ندفع خيول الأسئلة إلى آخر الشوط.. يمكننا أن نتساءل :ترى لو أن «محمد العلي» مضى في تحصيله الدراسي الديني في مناخٍ اجتماعي وديني بسيط، مثلما في قريته «العمران» (في الإحساء)، التي كانت ستنسج ترميزها له كرجل «دين»، أكنا سنعرفه اليوم ملقباً بـ»سماحة الشيخ محمد العلي،أم الأستاذ المفكر محمد العلي»؟
أحد الاحتمالات الأكثر ترجيحاً عندي أننا سنعرفه بلقب «سماحة الشيخ» لأنه كان سيجد القدرة على التفاعل مع عفوية الحياة وبساطتها والتزامها الديني، بما يكفل له إيجاد المعادلة الذهبية لتعايش المدني والديني في أعماقه الوجدانية وفي ممارساته الحياتية، لاسيما أن منطقة الإحساء تتسم بحياة اجتماعية وثقافية متسامحة، تعايشت فيها المذاهب السنية المتعددة مع مثيلاتها الشيعية المختلفة،في بيئة شكلت أنمودجاً للتسامح والتعددية.
إذن لماذا غيّرت دراسته الدينية المعمّقة في «النجف» مسار حياته الفكرية ؟
سوف نجد الإجابة المواربة على هذا السؤال في متن كتاباته،ولكننا سنسمعها منه بوضوح في حوار تلفزيوني مع محطة (إل .بي.سي) حين قال: [إن تجربة حياتي في «النجف» كمدينة صحراوية ودينية،قد عصفت بي،فتلك المدينة إما أن تدفعك إلى الاستسلام والخمول الذي لن يعقبه صحو،أو تدعوك إلى «التمرد».. كثيرون قادتهم «النجف» إلى التمرد، وشخصياً دفعتني للتمرد حتى على نفسي، ولست آسفا ً على مرحلة التدين تلك.. أنا اليوم أختلف كثيراً] (منبر الحوار والإبداع 15-7-2009م).
ولكي نستكمل احتمالات السؤال كاملة سنقول: ترى لو أن محمد العلي بعد تمرده على تجربته الدراسية في «النجف» وانحيازه إلى حواضن ثقافية وسياسية مغايرة (ومنها البعث) كانت ستوظفه في دولابها المؤسساتي والحزبي، أكنا سنقرؤه شاعراً ومثقفاً ومفكراً حراً، مثلما نعرفه اليوم؟
الاحتمالات مفتوحة على كل الممكنات، ولكن ما ينطوي عليه كاتبنا من حس إنساني صادق وثقافة عميقة أخذ بيديه للخروج من شرنقة ذلك القفص الذهبي، حيث ألمح إلى هذه المعمعة القاسية، في حواره المشار إليه آنفا مع محطة (إل.بي.سي) بالقول: [إن ما قام به القوميون والبعثيون في العراق عقب انقلابهم في عام 63م، من قتل همجي للمئات بدون سبب،سوى الرغبة العمياء في الانتقام من شيء لا أدري ما هو؟..كل ذلك دفعني لمغادرة العراق والعودة إلى وطني والاقتراب بعد ذلك- فكرياً- من اليسار!]
* ما دام الأمر كذلك، فلماذا لم يغادر العراق إلى لبنان أو إلى مصر أو غيرها من بلدان العالم؟
الإجابة على هذا السؤال، سوف نجدها في مرتكزات ومكونات مشروعه الثقافي، حيث سنرى أن سفراً مثل ذلك، سيعبر عن موقف سياسي أو حداثي، يعني القطيعة مع التراث أو الانقطاع عن المكان، ولكن حداثة «محمد العلي» في غالبية تجلياتها، تنبني على جدل التراث والحداثة، ضمن صيرورة زمنية مستمرة، لا كعملية راديكالية حلمية أو فعل قطيعة، ولذا اختار الاستقرار في الدمام،لأنها مدينة جديدة تتشكّل بهدوء منفتح على الأمل، دون أن تضطره لأن يغدو حامياً «للتراث» وفق أماني «الإحساء»، أو تقوده إلى معارك صخب سياسي دموي مثلما في «العراق».
وهنالك ستأخذ الدمام موقعها في مسيرة السفر والتنقل،كميناء للمسافر، وخيمةً للمتأمل، مثلما ستكون منفى مثقلاً بدلالات «الغربة والاغتراب»، وفيها سيفتح اشتعال شجر الحنين العاتي أبواب معادله الشعري،في تجربة «محمد العلي»، حيث يحضر مخيال الأصدقاء القدامى والأمكنة البعيدة أولاً،حيث نقرأ أقساها حرقة في قصيدته «غربة».
[ها هنا،حيث لا يرى الحب والشوق طريقاً إلى قلوب العباد
ويفر ّ الصباح خوفا ً من الأعين حتى كأنّها من قتادِ
أهنا،حيث أدمـَنـَت نكبة الإنسان من كأس حاضري وتلادي
سوف أحيا؟ أعيشُ؟ دون انتظارٍ لفراقٍ، أو شهقةٍ لمعادِ
يا حياة اركضي فقد ذبل النور وشل ّ العناء صوت الحادي
لن تنالي قبراً كبيراً يضم الناس في غير هذه الأبعادِ
(محمد العلي شاعراً ومفكراً - ص 428)
وسنجد تلك «الغربة»، ثانياً، في معظم قصائده اللاحقة، حين تتبدى في أبعادها الرمزية العليا، كتعبير عن غربة الإنسان في وطنه، من مثل قوله في قصيدة «شظايا»
النوارس تسأل: من قلّد البحر هذا اللجام
وأسكت لون الصهيل بأمواجهِ؟
وكيف تدجّن
واستسلمت
مجامر لؤلؤه للرماد؟
وماذا سيصنع هذا الفنار بأسمائه
وهي تهوي بفوهة الرمل
من بعد ذاكرة الأشرعة؟ (الديوان- ص27)
الدمام