انعرج بي السائق مضطرًا إلى زقاق يتفّرع من الشارع العام؛ لانسداد الطريق ب(الحفريات).
لفتت انتباهي تلك (الدكة) المزهوّة بأربعة شيوخ، لهم لحى وسبلات مغسولة باللجين!
فيما كان السائق يحاول جهده في الخلاص من هذا المكان الضيّق.. سألته أن يتوقف، وفتحتُ النافذة؛ لأغوص في تجاعيد وجوههم دون حاجز التظليل.
تغضّنات بشراتهم توحي بأن الزمن قد وهب كل واحد منهم سنوات تزيد على الستين.
أحاديثهم المقطّعة بارتشاف القهوة المهيّلة، وخضم الرطب (السكري)؛ يصلني من نثارها ما يشي بنقمتهم على الجيل الجديد، وعلى حصار (غزّة)، وعلى سوق الأسهم، وموجات الغلاء.. بل حتى على عجائزهم (نؤومات الضحى).
الشيخ الذي كان يتولّى مهمّة صبّ القهوة في الفناجيل؛ لم تلد شفته كلمة واحدة، ولم تكن أمامه أيّ حبة نوى، وكان يكتفي بابتسامة واهنة عندما تعلو ضحكاتهم على نكاتهم الجريئة.
ثمة أشياء جميلة تحوم في (دكتهم) ُتحس لكن لا ُترى ولا ُيدرك كنهها!
أصبح المرور على هذه الحارة عادة ملازمة لمشواري اليومي كلما عدتُ من الجامعة حتى بعد إصلاح (الحفريات)؛ إذ كلما أراد السائق مواصلة طريقه وسط الشارع العام؛ قاطعته: «انحرف جهة اليمين»!
في المرة السابعة من وقوفي المتكرّر بمحاذاة (الدكة)؛ نهض الشيخ النحيل مستندًا على عصا صفراء لها رأس معقوفة، وتقدّم بخطوات وئيدة جهة سيارتي إلى أن وقف أمام نافذتي المفتوحة وأرسل سؤالاً معجونًا برائحة الآراك المنبعثة من فيه:
- «تبحثين عن أحد يا بنتي؟»
فاجأني سؤاله، وغرس في صدري شجيرات صبار، لما وخزني شوكها أجبته :
- أنا يا عم أفتش عن أبي فيكم.