كان ولا يزال البحث عن مفهوم العقل من الموضوعات الفلسفية الأكثر تعقيدا؛ لصعوبة ضبط مصادره وآلياته الإجرائية ومؤثراته.
أول ظهور لمفهوم العقل كان من خلال الفيلسوف اليوناني انكساجوراس الذي نظر إلى العقل على أنه «التعبير عن عمليات الوعي والفهم المختلفة».
وانكساجوراس من خلال رؤيته يحدد للعقل وظيفتين: وظيفة إجرائية»التعبير» ووظيفة فكرية «الوعي والفهم» فالعقل لا يظهر بذاته وإنما يظهر من خلال الوعي عبر مختلف التصورات، والتطور المستمر لذاتية الوعي هي التي تجعل منه عقلا.
كما أن انكساجوراس يُوجد ارتباطا اشتراطيا بين الوظيفتين، فكل عملية وعي وفهم تلزم عملية تعبير.
ثم جاء بعده أرسطو الذي نظر إلى العقل على أنه»ما به تفكر النفس وتتصور المعاني»، وأرسطو أيضا من خلال تعريفه للعقل يحدد له وظيفتين: الوظيفة الأولى الوعي والفهم والوظيفة الثانية التصور.
فما الذي يقصده أرسطو «بالتصور»؟
يقصد بالتصور حصول المعرفة وهنا أرسطو يقدم إستراتيجية تقوم على أن حدوث المعرفة والفكر مرتبط بالخبرة الحسية وهو ما يعني أن المعرفة لا تتحقق إلا عبر الإدراك الحسي والخبرة المادية وزاد على ذلك أن مفاهيم التعقل تؤَسس على صور الإدراك الحسي، ففاعلية العقل عند أرسطو هي التفكير والتفكير يقوم على النظر في موضوعات الفكر.
يولد الإنسان محيطا بالأشياء التي تحمل ذاكرة خصائصها ولا ُتنقل تلك الخصائص إلى ذاكرة الإنسان إلا عبر الحس والتجربة والحس هو ما تدركه الحواس.
والمدرك هنا ينبني على محورين محور خارجي ومحور داخلي:
والمحور الخارجي هو المؤثر الذي يُكّون الإطار الشعوري الأوليّ من خلال حواس الإنسان وعادة فإن مستوى حاصل هذا المحور يرتبط بقدرة وخصوصية الذات العارفة
والمحور الداخلي من خلال الذهن أو القوة العاقلة.
فالذهن هي منظومة المعارف والإدراك باعتبارها ممثلا للكلية والشمولية «الكينونة الذهنية» التي تحقق فيما بعد التصور العام للمنظومة التي تتصف بقدرة التمييز والقابلية على استدعاء الخبرات المتشابهة والمشتركة من خلال الحلقة الإجرائية التي تعتمد على القياس والاستنباط لرصد التحولات البنائية للعيّنات الحاضرة.
أما التجربة الركن الثاني لتكوين الذاكرة الإنسانية فعلينا أن نميز بين تكوينها وبين وظيفتها.
فمن حيث التكوين هي محتوى معاشي تحدد الإطار التعريفي لعلاقة الذات بالموضوع؛أي إثبات وفهم حدث محسوس يؤدي إلى حصول معرفة تركيبية عن طريق ممارسة الملاحظة للظواهر.
ومن حيث الوظيفة فالتجربة هي الوعاء الذي يستقبل حاصل علاقة المحور الخارجي بالمحور الداخلي لتحويل ذلك الحاصل فيما بعد إلى تصور عقلي.
ويعتبر كانط التجربة أساس الفهم فهي تقودنا إلى تصوراتنا الذاتية للأشياء وتلك التصورات هي التي تسهم في إعداد تركيب صفات وخصائص الأشياء وهو تركيب يُنتج مفاهيم علاقات الأشياء.
وبذلك فالتصورات حاصل التجربة تقوم بوظيفتين: وظيفة التركيب من خلال تصميم أولي لخارطة تعريفات الأشياء ووظيفة إنتاج مفاهيم العلاقات بين الأشياء.
ويعتبر جون لوك من المؤيدين لنظرية أن العقل هو حاصل الارتباط بين الإدراك الحسي والتجربة باعتبار أن الفعل المعرفي يُؤسَس وفق معايشة فعل الإدراك وحاصله من التصورات وقد كان هذا واضحا في شرحه لإستراتيجية ذلك الارتباط من خلال قوله الآتي:
«عندما يحول العقل نظره إلى داخله تماما ويتأمل فعله الذاتي يكون التفكير في أولى مراحله؛حيث يلاحظ العقل في هذا كثرة عظيمة من المعاني المحددة ومن ذلك يبدأ في تمييز الأفكار.
وهكذا فالتصور العقلي يبدو مسايرا ولاحقا للانطباعات الحسية على البدن التي انبعثت من الموضوعات الخارجية لتزود العقل المتمايز التي نسميها نحن إحساسات، والتي هي المدخل الحسي لأي فكرة».
وعبارة لوك تكشف لنا عن الدور الصوري للعقل.
فالعقل يمارس وظائفه من خلال» مُوردِات» التصور التي تصوغها الإحساسات، لكنها ممارسة مشروطة بالتطابق مع خصائص أصل الموردِات، ولذلك فالموردات» التصور المعقول للإحساس» هي التي تتحكم في المنظومة التقويمية التي يمارسها العقل.
إذن العقل يُؤسَس وفق التصور القبلي ويمارس وظائفه وفق ذلك التصور.
وهذه الرؤية نجدها أيضا عند كانط، فكانط يرى أن المعرفة تؤسس وفق علاقتين؛ علاقة الموضوع»التصور» وعلاقة الذات»الوعي».
وبذلك فإن الذات لا تفهم الموضوع كما هو في الحقيقية ، وإنما يتحول كما يقول غادامير الفهم إلى تأويل للموضوع وفق رؤية الذات.
والعلاقة الأولى لا تتم إلا بالتأمل والعلاقة الثانية لا تتم إلا عبر المفهوم والعلاقات الذهنية اللذين يُعينان على عملية تعقل الموضوع؛لإنتاج المفاهيم والأحكام والاستدلالات التي تصنع التصورات.
كما أن كانط يربط علاقة الذات وعلاقة الموضوع بعلاقة تسبقها وهي علاقة الإحساس بمستوييه.
فهو يجعل الإحساس مصدر انبناء التصور العقلي الذي يجمع بين علاقتي الذات والموضوع؛
من خلال تموضع ظاهرة الإدراك، لذلك فالموضوع عند كانط لا يعني الشيء في ذاته بل يعني ظاهر الشيء؛ لأن ظاهر الشيء هو الذي يملك خصائص الكينونة أي تحقيق التعلق بالزمان والمكان، وهذا التعلق هو الذي يُكسب الأشياء موضوعاتها ويحّولها إلى محتوى قابل للفهم ومحقق للوعي.
وكانط يقسّم الإحساس إلى مستويين: مستوى سلبي كما يسميه ويعتمد على استقبال الموضوع الخارجي المرتبط بزمان ومكان.
والمستوى الثاني، مستوى إيجابي ويكون في حالة الفكر؛ لأنه يحول الإحساس إلى محمول معرفي.
و تحويل الموضوع الخارجي إلى موضوع داخلي يعتمد على الأفكار والوجدان والاستنباط؛أي «الكينونة الذهنية»، وبذلك فكانط يجعل العقل جزءا من القدرة الفكرية وليس هو منتِج القدرة الفكرية.
وكانط ولوك وقبلهما أرسطو يذهبون إلى أن قوانين العقل تتشكل من خلال التصور المعقول للمعطيات الحسية، وهو ما يحول التصور إلى عقل عملي أو وظيفي تتشكل حقيبته التنظيرية من خلال التجربة والخبرة، فمقدمات المفاهيم التي تؤسَس القانون العقلي هي حاصل التصور.
فالتصور هو الذي يؤسس الدورة العقلية؛ الانتقال من الفعل إلى الفكر إلى العقل ثم من العقل إلى الفكر إلى الفعل.
وهنا العقل يختفي في زي التصور لتكوين عملية البناء الكيفية سواء على مستوى المعطى الحسي»الإحساس السلبي» أو مستوى المعطى العقلي»الإحساس الايجابي».
وعملية الكيفية ليست عملية تحويل المعطى الأولي إلى معطى فعلي بل هي أيضاء عملية انبناء للمعطى الفعلي ليصبح تصورا.
وهذا التصور يعتبره ديكارت قانونا فكريا ويربطه بالحدس فيقول « أنا لا أقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيرة، ولا الحكم الخداع لخيال فاسد المباني إنما أقصد به التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من السهولة والوضوح والتميز لا يبقى معها مجال للريب أي التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده».
والمتأمل لقول ديكارت السابق سيلاحظ عدة أمور هي:
* أن ديكارت يقسم التصور إلى قسمين:
القسم الأول التصور الحاصل من خلال المعطى الحسي المتغير، أو «المعنى الهيئي» الذي يصور الأشياء، ويصفه بالحكم الخداع والخيال الفاسد.
والقسم الثاني هو» المعنى الحدسي» الحدس أو التصور المحض الذي يُكّون الموضوع التصويري الذي يتميز بالسهولة والوضوح واليقين والذي يصدر عن نور العقل.
* إن ديكارت يفرق بين التجربة والحدس؛ فيخص التجربة بالشك ويخص الحدس باليقين، وبذلك فإن حاصل التجربة عنده لا يؤسَس أي تصور، وأن الحدس هو الذي يؤسس التصور.
* ووظائف التصور المحض»الحدس» عند ديكارت هي:
إدراك الطبائع، وإدراك الحقائق الأولية للثوابت» أنا أفكر أنا موجود» ، وإدراك المبادئ العقلية التي ترتبط بالثوابت؛أي أن إضافة المتساويات تنتج التساوي.
* التجربة عند ديكارت هي مجموع المدركات الحسية، أما الحدس فهو يستمد موضوعه من خلال ذات الحدس وبالتالي فإن التصور الناتج عنه يتعالى عن التجربة المعقولة.
إن عملية الإنتاج والمفهوم عادة تخضع لحلقة إجرائية تضم الفهم»المدرك التأويلي» للمفهوم وقيمة الإفهام «حصول التبليغ» وقيمة الانفهام» تأثير حصول التبليغ»عبر البنية اللفظية.
وعناصر هذه الحلقة لا تتم إلا عبر علاقة تأثر وتأثير بين المفهوم والمدرك الثقافي للمتلقي.
وعندما نأتي إلى تكوين الحدس فلا بد أن هناك طرفا آخر يتشارك معه كعلاقة تأثر وتأثير لإنتاج التصور الذي يمثله وتُبنى على أساسه المفاهيم العقلية.
تذهب النظرية الحدسية إلى أن الطرف المشارك لعلاقة التأثر والتأثير هو المطلق المتمثل في «المثل».
إذن النظرية الحدسية تُرجّع التصور المبني على التجربة الظواهرية والإدراك المعقول لاستبداله بالتجربة الباطنية المتمثلة في أفكار المثل أو الكنز المخفي.
لكن أفكار الكنز المخفي تتجلى في الأشياء وهو ما يعني العودة إلى التصور المبني على التجربة والإدراك المعقول على أساس أنها ممثلة للأشياء، وهنا يحدث الصراع بين العرف والتغيير.
فالحدس في النهاية يتكون عبر انطباعاتنا «الإحساس السلبي والإحساس الايجابي» المكونة للتصور»الكينونة الذهنية» وإن لم يلتزم أو ويؤمن بنتائج التجربة المادية.
وهو محاولة لعزل التصور الذاتي عن التصور الجمعي أو تطهير الوعي الذاتي من الوعي الجمعي كتجربة ممثلة للأشياء على مستوى تشكيلاتها وليس على مستوى ماهيتها .
وهذه الفكرة، فكرة تطهير التصور الذاتي من التصور الجمعي لتحصيل الحدس عبر ماهيات الأشياء وليس تشكيلاتها، هي التي تقود الممانعة نحو أي تغيير.
من الطبيعي أن كل حدس سواء أكان ذا طبيعة متعالية أو ذا طبيعة واقعية يمتلك ذاكرة؛لأن لكل إنسان سجله المعرفي الذي ورثه عن مجتمعه عن طريق الأسرة والتعليم والأعراف والمفاهيم المعرفية الشائعة.
ويٌقدم السجل المعرفي للفرد عبر مجموعة من التصورات التي نسميها» الوعي» والتي بدورها تُؤسَس للفرد منظومته الفكرية ومنظومته التقويمية.
وهكذا فالفرد يُؤسس تصوراته الخاصة للأشياء وفق تصور السجّل؛فهو يحدد مفاهيمه للأشياء وفق التصور الذي ألّفه له السجل، والأمر كذلك بالنسبة لمواقف قبوله أو رفضه للأشياء.
فالفرد لا يرفض الأشياء بل يرفض مفاهيم الأشياء، ورفضه هنا ليس عملية إجرائية؛ فهو لا يحلل مبادئ المفاهيم ليرفضها أو ليقبلها، بل العملية قياسية، فهو يتعامل مع مفاهيم الأشياء وفق مواصفات تصوراتها لتصوراته «تصورات السجل».
وهكذا تتم عملية المقايسة التي تُنتج منظومته التقويمية.
فنحن نمارس عقليتنا على مستويين:المستوى الأول» تأليف تصوراتنا نحو المجردات أو تأليف المنظومة الفكرية للأشياء عبر التصورات «.
والمستوى الثاني المترتب على الأول هو « تطبيق معايير المنظومة التقويمية لتصوراتنا الفكرية».
هل هذا يعني أن تصور المفهوم معادل للعقلانية؟
بل يعني أن تصور المفهوم هو مرآة للعقلانية وفق أنظمة السجل الخاص بالمجتمعات.
وعند تحليل بنية تصور المفهوم علينا أن نميز بين تصورات السجل والتصورات الإبداعية.
تنشأ تصورات السجل وفق بنية متكاملة تنوجد في سياق تجارب المجتمع وخبراته الاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية، وجميع التجارب والخبرات تتحرك في ضوء المكون التراثي للجماعة الإنسانية، ويؤدي ذلك الائتلاف إلى صناعة الأصول المعرفية لتشكل التصورات.
فالتصور يبدأ بالتجربة والخبرة وينتهي كقانون ثقافي لأنه يحمل منظومة تقويمية، والمنظومة التقويمية هي الممثل التشريعي للفاعل الاجتماعي.
ويسمي الدكتور عبد الوهاب المسيري التصوير بالخارطة الإدراكية وهي عبارة عن»بنية تصورية يجردها العقل البشري من كم هائل من العلاقات والتفاصيل والوقائع والأحداث فيستبعد بعضها لعدم دلالتها، ويستبقي البعض الآخر، ثم يرتبها ترتيبا خاصا وينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح مترابطة بشكل يماثل العلاقات الموجودة بالفعل بين عناصر الواقع، وعملية التجريد هذه يمكن أن تتم بشكل غير واع إلى أن تأخذ شكل خريطة إدراكية يستنبطها الإنسان تماما ويحملها في عقله ووجدانه فتحدد طريقة ومجال إدراكه للواقع الخام المحيط به، فيقوم بتهميش بعض التفاصيل وتأكيد البعض الآخر بحيث يراها هامة ومركزية وهذا هو مصدر التحيزات الكامنة».
ومن خلال عبارة الدكتور المسيري نستطيع تحديد خصائص تصورات السجل «الخارطة الإدراكية».
* الخارطة الإدراكية هي بنية، والبنية عبارة عن نظام من العلاقات النسقية، أو هي»المكون من ظواهر متماسكة»، كما أنها تعني»مجموعة من العلاقات بين عناصر مختلفة أو عمليات أولية»،
وكل عناصر مجتمعة لعلاقات متشابهة تكون بنية، هذه الكلية التي تجمع العناصر المتساوية والعلاقات المتشابهة تمثل نظاما.
فالكلية وظيفة تنظيمية، فكل نظام يمثل وظيفة تنظيمية في ذاته.
والبنية تتكون من مستويين؛ البنية والنظام، ولكل منهما وظيفة، فالبنية لها وظيفة علائقية، في حين أن النظام له وظيفة اتصالية.
وإذا أردنا تحليل الخارطة الإدراكية فنحن نتبع نوعين من التحليل، النوع الأول يختص بالعناصر وعلاقاتها وهو التحليل البنائي، والنوع الثاني يختص بالعملية التواصلية داخل النظام ذاته.
*إن الخارطة الإدراكية التي تشكل ذاكرة وفكر الإنسان هي عبارة عن «قوانين»، والقانون ينبني على العلاقات والتفاصيل»التجربة» لكنه يُورد إلى المنظومة التقويمية كقانون مجرد من العلاقات والتفاصيل وليس كتجربة لأن المنظومة التقويمية للخارطة الإدراكية هي مجموعة قوانين وليست مجموعة علاقات؛ ولأن القوانين حامل لمعايير المقايسة التي تنوب عن علاقات التجربة.
* إن نموذج الخارطة الإدراكية المتبني هو نموذج اصطناعي تُخضعه الجماعة لأصول محليّتها.
* إن الخارطة الإدراكية هي صانعة وعي الفرد من خلال تأسيس رؤيته العقلانية وموقفه العاطفي وطريقة إنتاجه للرؤى والمواقف الجديدة.
* إن الخارطة الإدراكية تتشكل وفق نماذج انتقائية تخدم الإستراتيجية الثقافية للجماعة وتحافظ على هوية سجل الأفراد وتتفق مع الخطاب الأيديولوجي للجماعة؛ أي تحقق وظيفة الوعي.
إذن تلك هي خصائص تصور السجل الجمعي الذي يورثه الفرد.
لكن طبيعة حياة الفرد التي يتعرض من خلالها لتجارب وخبرات مختلفة تؤدي إلى تغير أو تطوير سجل ذاكرته، والتغير والتطوير هنا يطرأ على تصوراته الأولية» تصورات السجل».
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة