-1-
خَرَجَتْ على الناس (هيئةُ المساحة الجيولوجيّة السعوديّة) مؤخَّرًا بنبوأةٍ عجيبة، لفرط ثقتها بتحقّقها بادرت إلى إعلان نتائجها قبل استكمال الدراسات، تذهب إلى أن جبال فَيْفَاء وما جاورها معرّضةٌ لمخاطر الانهيار، والله المستعان! وزَعَمْنا في المساق السابق أن تلك النبوأة مستحيلة، أو قُل مستبعدة، اللهم إلاّ إذا افترضنا أن هئية المساحة «الملهمة» كانت تتنبّأ لنا أهل فَيْفَاء خاصّة، وللناس كافّة، بقيام الساعة من عندنا، وأن انطلاقة شرارتها الأُولى سنحظَى نحن بشرف حملها وتحمّلها؛ يوم تأتي إجابةً عن السؤال الجيولوجيّ القديم جدًّا عن الجبال: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً، لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً.»(1) ومع هذا فتنبُّؤات الهيئات والجمعيّات المتعاقبة، محليَّة وإقليميَّة، كان ينبغي أن تبعث على الزهو لدى أهل الجنوب كلّهم؛ لأنها تستهدفهم دائمًا بما لذَّ وطاب من التهيُّئات والتنبُّؤات والتأويلات.. ألا بخٍ بخٍ لكم يا أهل الجنوب جميعًا، فيكم البدء والختام: بدء الخليقة والأنبياء والقيامة والجنّة والنار، كما ذهب إلى أشياء من ذلكم (كمال الصليبي)، قبل حين من الدهر، وثَنَّتْ على مذهبه (جمعية التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة) البحرينيّة، في بحوثها التي عرضنا أقوالها في المقالة السابقة؛ ثم ها هو ذا ختم الختام، الذي ذهبت إليه (هيئةُ المساحة الجيولوجيّة) السعوديّة! فما الذي أبقيتموه لسواكم؟! ولذلك كلّه فإن الأرض المباركة- حسب دعوى جمعية التجديد- ربما كانت هناك في (أبها)، أو في (صنعاء)، لا في (فلسطين)، ولا في محيط أُولَى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، مدينة (القدس)، حيث المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، كما ورد في القرآن الكريم، وحيث أُسري بمحمدٍ، صلى الله عليه وسلّم، والتقَى بأنبياء الله إلى بني إسرائيل، ولا سيّما موسى وعيسى، وأَمَّهم في الصلاة، بحسب قِصّة الإسراء والمعراج. كلاّ، لم يكن أولئك الأنبياء هناك، حيث تاريخهم وآثارهم وقبورهم، فذلك وهمٌ تاريخيٌّ، وإسرائيليٌّ- كما تذهب تلك الكتابات التاريخيّة التأويليّة المشار إليها- ومن ثَمَّ فإن محمّدًا لم يُسْرَ به شمالاً، بل جنوبًا!
أمّا تهيُّئات هيئة المساحة (العكسيّة)، فأهون شأنًا. وربما تمخّضت بدورها عن إيحاءاتٍ لهيئةٍ أخرى سابقة منحلّة، هي المرحومة، بإذن الله، (هيئة تطوير وتعمير فَيْفَاء)، التي ها هي تي قد آذنت القيامة أن تقوم- حسب أنباء هيئة المساحة الجيولوجيّة- وهيئة التطوير تلك لم تطوّر شيئًا ولم تعمِّر، حتى نفسها، بل ظلّت طيلة تاريخها المجيد تنتظر من المواطن البائس الفقير أن يغيّر هو، وأن يبدّل! أن يزيل، مثلاً، بقدراته الجبّارة آلاف الأشجار المعمّرة منذ مئات السنين، وأن يستبدلها- هو لا غيره- بغيرها، ثم بعدئذٍ إذا تمّ له ذلك، ولن يتمّ أن يبتغِي نَفَقاً في الأرض أو سُلَّماً فِي السماء كي يجلب الماء اللازم لاستزراع أشجار الفواكه الجديدة وغيرها من الشجيرات والنباتات.. والحمدلله ربّ العالمين، تَمَّ التطوير والتعمير! والهيئة مُحِقَّة في مذهبها؛ لأن الماء هو أوّل مقوّمات الحياة، ناهيك عن شؤون التطوير والتعمير، وهو ما لم يوفَّر لابن تلك الجبال الظامئة منذ الأزل، مع أنه- كما تشهد الهيئة- أولويّة ضروريّة الوجود قبل أن يُسند إلى المواطن النهوض بدوره الخارق الماحق المنشود في القلع والغرس والتعمير والتطوير! غير أن المفارقة تظهر هنا كالحةً حينما تَرِقُّ السماء للناس هناك فتهبهم وحدها بعض الأمطار الموسميّة، فينهار التطوير والتعمير، الذي أسهمت فيه هيئة التطوير والتعمير، ولا شكّ، فإذا هيئة المساحة تصيح من جانبها منذِرةً بانتهاء التطوير والتعمير إلى الخراب والدمار الشامل، بل بانهيار الجبال، ونهاية التاريخ!
فيا لله العَجَب والمشتكَى، لا التطوير نفع، ولا الجبال بقيتْ شامخةً كسالف حالها!
-2-
وفي مقابل ذلك النوع من الفكر التأويليّ، الذي رأينا ملامح من مغالاته في نسبة التاريخ إلى الجزيرة العربيّة، يظهر نوعٌ مضادّ من اللامبالاة بتاريخ حقيقيّ ماثلٍ شاخصٍ من بقايا آثار الجزيرة. ويتجلّى ذلك في:
1- طَمْسُ الآثار القائمة عنوة، ولاسيما ذات الصفة الدينيّة، بحُجّة توقّي الشِّرك ودواعيه! وكأن أبناء الجزيرة، إنْ لم يؤخذ على أيديهم اليوم، وتُطمس شواهد الآثار، عادوا إلى عبادة الأوثان غدًا! ويندرج في بواعث هذا التصوّر واقع من تعقيد الإجراءات على مرتادي الأماكن الأثريّة، أو عدم إيجاد التسهيلات المناسبة لهم- كما هو الحال في كلّ دول العالم، الفقيرة والغنيّة- لزيارة المعالم الأثريّة، كمدائن صالح، والفاو، وغيرهما.
2- عدم التنقيب عن الآثار في المملكة العربيّة السعوديّة، إلاّ بجهودٍ محدودة جدًّا، وفي مواقع أكثر محدوديّة، حتى إنها لقلّتها لا تكاد تستحقّ الذِّكر. وهذا لا يتوازَى مع الكنوز الآثاريّة التي تنام عليها الجزيرة، صحراؤها وجبالها وسواحلها.
3- إهمال الآثار بعد اكتشافها. حتى إن المرء ليتمنّى أحيانًا أنها ظلّت محفوظة في أحشاء الأرض، لعلّ الله يقيّض لها جيلاً أكثر وعيًا واحترامًا للتاريخ والآثار، يتعامل معها بالطُّرق الحضاريّة اللائقة. وبين أيدينا شاهد على ذلك من قرية الفاو الأثريّة. تلك القرية التي كانت مدار اهتمامي في كتابي «مفاتيح القصيدة الجاهليّة: نحو رؤية نقديّة جديدة (عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا)»؛ لأن فيها مراتع كِنْدَة ومملكتها التي ينتمي إليها الشاعر امرؤ القيس. وقد وجدتُ بين آثارها وإشارات شِعر امرئ القيس علائق، كانت مدار دراستي في ذلك الكتاب، محاولاً استقراء الأثر القوليّ بالأثر التاريخيّ؛ للخروج برؤيةٍ جديدة. ولا شكّ أن مَن يطّلع على آثار قرية الفاو- كما حواها متحف الآثار بجامعة الملك سعود- يُدرك أهميّتها الحضاريّة البالغة! ويعود الفضل في التنقيب عن آثار القرية إلى قسم الآثار في جامعة الملك سعود، ببعثته بقيادة الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيّب الأنصاري، التي تمخّضت عن كتابٍ بعنوان «(قرية) الفاو صورة للحضارة العربيّة قبل الإسلام في المملكة العربيّة السعوديّة»، (ط. جامعة الرياض، 1982م). وتقع (قرية كِنْدَة: الفاو) جنوب غرب (السليّل)، وتبعد عن (الرياض) حوالي 700 كم إلى الجنوب الغربي، و150كم إلى الجنوب الشرقيّ من (الخماسين)، في المنطقة التي يتداخل فيها (وادي الدواسر) ويتقاطع مع (جبال طُوَيْق)، عند فوّهة مجرى قناة تسمى بالفاو. فهي بذلك تقع على الطريق التجاري الذي يربط جنوب الجزيرة وشمالها الشرقيّ، حيث كانت تنطلق القوافل من مملكة سبأ ومعين وقتبان وحضرموت وحِمْيَر متّجهةً إلى (نجران)، ومنها إلى «قرية»، ثم منها إلى (الأفلاج)، فـ(اليمامة)، ثم تتّجه شرقاً إلى الخليج، وشمالاً إلى وادي الرافدين وبلاد الشام. وأذكُر أنني منذ سنوات كنت في طريقي من (خميس مشيط) إلى (الرياض)، وأنا على طريق (وادي الدواسر)، استمعتُ إلى برنامجٍ إذاعيٍّ عن المواقع الأثريّة في المملكة، ومصادفةً كان الحديث عن (قرية الفاو)؛ فاستيقظ شغفي القديم وراودتني نفسي للتعريج على الموقع، لولا أنْ كانت معي عائلة، ولم تكن هناك أيّة خرائط، ولا دليل سياحيّ، ولا يفرحون! ومن الجنون التاريخيّ الرسميّ أن يذهب المرء في الصحراء، رغبةً في زيارة ديار امرئ القيس، وهو يعلم واقع الحال، ومدى الاهتمام بالتراث، والتسهيلات المتاحة في سبيله! ولقد حدتُ الله أن لم أرتكب تلك الحماقة في ذلك الصيف القائظ، وازداد حمدي وثنائي عليه سبحانه بعد أن قرأتُ تقريرًا مصوّرًا عن القرية نُشر في صحيفة «الجزيرة»(2)، يشير إلى أنها تشكو من الإهمال، بعد توقّف التنقيب عن آثارها منذ أعوام. وأنها- حسب التقرير- قد بدأت تندثر من جديد، وتمنّى الكثيرون، كما تمنيتُ، أنه لم ينقّب فيها قطّ كي لا تُهمل بتلك الصورة المزرية، حيث تُركت عُرضةً لعوامل التعرية والتدمير البشريّ، نتيجة ضعف الحماية؛ فليس هناك سوى (حارس) بائس، لا يملك حتى مقرًّا للحراسة، وقد بذل- كما قال- محاولات مستميتة لحماية الموقع، بوضعه بعض الأحجار والحواجز الحديديّة البدائيّة والكفرات القديمة لمنع الموقع من المارّة والسيارات، دون جدوى. ويُظهر التقرير أن الموقع لا يحيط به إلاّ شبك سخيف ممزّق، لا يصلح حتى زريبةَ معز! وهو لا يحيط إلاّ بجزءٍ يسيرٍ جدًّا من القرية، ممّا جعل الموقع ساحةً للعبث والسرقة. أمّا باقي الموقع، الذي تزيد مساحته عن 4 أكيال مربّعة تقريبًا، فما يزال أرضًا فضاءً دون حماية؛ فهو مسرحٌ للسيارات واللصوص والحيوانات السائبة والضالّة. ويشير التقرير كذلك إلى عدم وجود متحفٍ يضمّ أيّ شيءٍ من موجودات القرية- وأيّ متحفٍ يمكن تخيّله في تلك القفار الجرداء؟!- وليس هناك مرشد سياحيّ، ولا حتى من يمنح الإذن بزيارة القرية!
إن لدينا من الذخائر التاريخيّة والآثاريّة ما كان قمينًا أن يجعل السعوديّة أهمّ دولةٍ سياحية آثاريّة في العالم.. ولكن... [للحديث بقيّة].
-
+
p.alfaify@yahoo.com http://khayma.com/faify
- الرياض