تبين قصة جورج أرول «مزرعة الحيوان» (Animal Farm) مثالا على مدى خطورة نتائج إتقان فن الكذب. وعلى الرغم من أن القصة تضع هذا الفن في إطار ثورة اقتصادية بدأت بوعود ووضعت دستورا لضمان حياة كريمة وعادلة لجميع حيوانات المزرعة إلا أن هذه الثورة الناجحة في بدايتها انتهت نهاية مأساوية؛ لأن من قادوا الثورة لجأوا إلى الكذب والتكذيب وتحوير مبادئ الثورة إلى ما يخدم مصالحهم الشخصية ونسوا الهدف الذي قامت من أجله الثورة. كان الاعتماد على تلك الاستراتيجية هو أن الأجيال ستنسى لأنها لم تحضر التجربة، وأن من قاموا بالثورة سيهرمون وتضعف شوكتهم.
السبب الحقيقي للانهيار والنهاية المأساوية لمجموعة الخنازير والتي كانت تتسلم دفة الحكم في المزرعة لم يكن لينجح لأنه قام بالتخلص من المخلصين والأذكياء أولا، وثانيا؛ لأنه لم يخدم الأكثرية من الحيوانات التي أصابها الجوع والمرض ولم تعد تقوى حتى على العمل والإنتاج إضافة إلى أن الفئة المستفيدة والتي احتكرت الحكم لم تكن قادرة على إنتاج شيء سوى حصد ما تنتجه بقية الحيوانات. فلقد سخرت الغراب الذي كان يجيد قلب الأسود أبيض لصالح الخنازير والكلاب للهجوم على من تراوده فكرة جدلية في الدستور أو الاعتراض. وتنوعت الوسائل والطرق ليضمنوا استمرار الحال. إلا أن الحيوانات جميعها لم تكن قادرة على الاستمرار وغادرت المزرعة فانهارت على رؤوس الخنازير؛ لتبدأ دورة حياة جديدة من درجة الصفر في المزرعة بعودة الإنسان (يه).
ولقد أثار الكذب جدل الفلاسفة في مفهومه ومعناه. ففي الجدل الفلسفي تم التفريق بين الصور الإنسانية المتعددة التي تلتبس على الإنسان والتي ينطبق عليها التعريف ولكنها ليست كذبا مثل القصص والنكت ثم انتقلوا إلى الخداع وسوء الفهم......الخ من المصطلحات التي قد تتشابه مع الكذب.
إلا أن الكذب في نهاية المطاف، كما اتفق الفلاسفة عليه أنه عبارة عن نوايا في التضليل وإقناع الآخرين بوجهة نظر ولا علاقة للنص أو القانون بها (النص لا يعني فقط ما هو مكتوب، وإنما موديلات الملابس وطبيعة الأكل والألوان السائدة والأشكال الهندسية المنتشرة وغيره كثير يعتبر نصا حسب ما وضح رولاند بارت ولفي ستراس فيما بعد).
أما المفكرون ففسروه في «نظرية التلقي» بأن تفسير النص لا يعتمد على نوايا الكاتب أو النص نفسه وإنما في المتلقي ومعرفته المختزنة ووجهة نظره وتوقعاته والسياق.......الخ
ويضاف هنا نواياه. واتفق الجميع أن لكل نص تفاسير كثيرة محتملة. ولا يوجد معنى نهائي وقاطع بحيث نجزم على أنه الحقيقة وإنما هي وجهة نظر فقط لا غير للمُتلقي. وقد ذكر أوجستن أن الحكم بالكذب أو غيره يجب وبالضرورة أن يدخل للنوايا، أما ومسات (Wimsatt) فقد ذكر أنه من الاستحالة الدخول في موضوع النوايا لصعوبته.
هذه الإشكالية أدت إلى تعديل أحكام كثيرة في الغرب. وإلى صياغة التعاريف ووضع معايير لقياسها حتى لا يترك مجال للنوايا أيا كانت ويهدف إلى حماية المجتمع ممن يجيدون فن الكذب (إخفاء النوايا) وفي نفس الوقت لرفع الظلم عن المجتمع فعملوا على التفاسير المحتملة للنص وأضافوها إلى الأدلة للإيضاح وتعدد الاحتمالات للتقليل من الأخطاء البشرية في حسم القضايا، ومنها مثلا وجوب الاعتراف.
يحدث هذا في مجتمعات تضع يدها في يد المؤسسات الأكاديمية للاستفادة من البحث العلمي في الدراسات الإنسانية.
ففي الجامعات في الدول «المتقدمة» والتي تطبق ما توصلت له البحوث في مجال الفكر مع طلاب العلم، إذا أجاب الطالب، مثلا، في أسئلة اختيارية بين صح/خطأ يستطيع الطالب أن يجادل صحة جوابه عن ما اعتبره المدرس خطأ في الإجابة - أي بشرح وجهة نظره في نصوص المقرر وتفسيره لها لإقناع المدرس - إلا فيما أتفق عليه.
جاء هذا بعد جدال طالب في أحد الجامعات الأمريكية بأن 1+1 لا تساوي 2 لأن 2 هي مجرد إيجابة متفق عليها في علم الحساب ولا يعني بالضرورة أنها حقيقة؛ فالحقيقة المطلقة لم يصل إليها البشر بعد. وفي هذا السياق قام جاك دريدا بمناقشة صيغة سؤال: صح/خطأ (true/false) وجادل بأن الكذب هو ليس عكس الحقيقة/ صح، وإنما الخطأ هو العكس لكلمة حقيقة/ صح ، وهو يعتمد بشكل كبير على وجهة النظر القابلة للجدل والإثبات من عدمه كما في حالة المعادلة الحسابية.
ومثال آخر لفن الكذب ما تحتويه التقارير السنوية عن الموظفين والتي في معظم الأحوال هي عن الرئيس نفسه لا عن الموظف. فالتقرير هو وجهة نظر الرئيس وهو تقرير شخصي لا يتعلق بالعمل أو إمكانيات الموظف التي قد لا تروق للرئيس أو تتفق مع نواياه فهي وجهة نظر تخصه. ناهيك عن لو كان الرئيس أقل علما وخبرة ممن يقوم بتقييمهم لغياب المعاير في الاختيار للمناصب. بالطبع ستنتقل الأحوال من سيئ إلى أسوأ؛ لأن كل رئيس يريد أن يظل في مكان السلطة بتقاريره عن الموظفين لديه؛ وبالطبع هناك أساليب كثيرة يتم اللجوء إليها من إخفاء معاملات ومضايقة الموظفين الأكفاء بتوجيه تهم غير صحيحة لغاية معينة (وتطول قائمة الأساليب). وفي نفس الوقت التغطية بكل الوسائل على على أخطاء من هم في الدائرة أيا كانت (بغرض الترشيح للمنصب فيما بعد) وعدم المتابعة للجميع بنفس الدرجة بما فيهم الرئيس وإنما «نابليون (الرئيس) دائما على حق» (مزرعة الحيوان) ولو أخطأ......الخ. وإذا استلزم الأمر التغيير فيقوم الرئيس السابق بترشيح من بعده من نفس الدائرة فهذا حقه. وتظل الدائرة مغلقة ولا يتغير الحال إلا نحو الأسوأ، إلى أن تخنق الدائرة أصحابها. ويجب ألا نتساءل هنا «لماذا هناك تقارير ممتازة والعمل لا يسير كما ينبغي أو أنه ليس هناك إنجاز؟».
ما أفرزته «نظرية التلقي» هو أنها القت الضوء على هذه الإشكالية بين المعنى في النص بجميع صوره وفي محاولة فهمها وإيجاد الحلول لها. أما في نظرية اللغويات فقد بين فردناند دي ساسور (Ferdinand De Sassure) إشكالية المعنى بنظريته المعروفة والتي حول بها الدراسات اللغوية إلى إشارة لها دال ومدلول وبين أن العلاقة بينهما غير ثابتة، ولا يمكن التكهن بها. ومن هنا جاءت احتمالات لتعددية التفاسير النصية. ثم قام رونالد بارت (Ronald Barthes) بتطبيق مفهوم دي ساسور على الملابس والطعام وغيرها؛ ومثله لفي ستراس (Levi Strauss) الذي طبق نفس المفهوم على القصص الأسطورية.
نرجع عنا إلى الموضوع الأساسي وهو الكذب. فإذا ارتبط الكذب بالنوايا والتي يستحيل الوصول إليها فلا بد من التحري وسماع جميع الأطراف ووضع المعايير قبل إصدار الحكم وحتى حين نفعل ذلك فلن نستطيع الوصول للحقيقة المطلقة في أي موضوع، ولكننا نحاول فقط، حتى نقلل من الأخطاء في حق العاملين ونرفع الظلم ما أمكن أما أن نقرأ ما كُتب ونُصدر أحكامنا بناء عليه فهو «اتفاق» مع شخص دون آخر على معنى معين دون غيره، وذلك لهدف قد يخدم مصالح شخصية وليس له علاقة بالحقيقة أو العدل أو إمكانية الموظف الحقيقية أو حتى المصلحة العامة للمؤسسة في تحقيق أهدافها أو على الأقل في خدمة المجتمع.
ويعرض لنا التاريخ دروساً لقصص المبدعين والمفكرين الذين غيروا تاريخ البشرية ولم يكن مرضياَ عنهم مثل شكسبير وجاليلو... وزويل وغيرهم كثير. ولن تكون هناك نتيجة لمثل هذه الممارسات إلا الانهيار التام لأفراد أو مؤسسات أيا كانت، كما يوضح أرُول في قصته، إذا ما أتقن من يدير الأحداث فن الكذب.. أي أن يتقن فن إخفاء نواياه.
المراجع:
Augustine,St.»Lying,» in Treatises on Various Subjects.vol. XVI, Roy J.Deferrari,ed. New York: Fathers of the Church, 1952.
Aquinas, Thomas. «Of lYing.» In Summa Theologica, vol. XII. London :Burns, OAtes, الجزيرةWashbourne, 1922. pp. 85-98
Bok, Sissela. Lying. New York: Random House, 1978.
Carroll, R.P. «The Reader and the Text» in Text in Context, ed. A.D.H.Mayes.2000.
Castelli, E, S.D.Moore, G.A. Phillips and R.M. Schwartz, Ed., «Reader-Response Criticism» in The Postmodern Bible, 1995.
Fish, Stanley. Is tbere a Text in the Calss? Tbe Autbority of Interpretive Communities, 1980.
Gadamer, H.G. Wabrbeit und Metbode. 1960, Engl.tr. Trutb and Metbod, 1975.
Iser, W. The Implied Reader (Baltimore. 1974. The Act of Reading. 1978.
Jauss, H.R. Towards an Aestbetic of Reception (1982), Engl. tr. by T.Bahti.
Jonathan E. Adler. «Lying, Deceiving, or Falsely Implicatin». Journal of Philosophy. XCIV (1997): 435-52.
Kant, Immanuel. Foundations of the Metaphysics of Morals. Lewis W. Beck, trans. New York:Macmillan, 1959.
Plato. Republic. C.D.C. Reeve, trans, Indianapolis: Hackett, 2004.
Tompkins, J.P. ed., Reader Response Criticism: FromFormalism to Post-Structuralism, 1980.
Wayne C. Booth, The Rbetoric of Fiction, 1961; Tte Rbetoric of Irony, 1974.
Williams, Bernad. Truth and Truthfulness. Princeton: Princeton,2002.
-
+
* جامعة الملك سعود - الرياض