الموت في مقابل الحياة، أو في معارضتها، هو القطب الذي يستدير عليه عالم رواية (القوس والفراشة) لمحمد الأشعري. وهو البنية التي تثوي تحت أحداثها وتحولاتها، وتنتظم بها سائر مكوناتها، مانحةً إياها رباطاً عضوياً، يصنع تماسكها من جهة، ونموها من جهة أخرى. وليس الموت هنا سوى إشارة مفتوحة على كل معاني التدمير والعدم والكراهية والإجداب والقبح والظلم والاغتصاب والتسلط والتعصب وخرق العدالة والنظام وتزييف الحقيقة... إلخ، تلك المعاني التي تندرج في طاقة الثاناتوس، بحسب دلالتها عند فرويد، المقابلة لطاقة الإيروس، طاقة الحب والجمال والثقافة، و-إجمالاً- طاقة الحياة وغريزة البقاء. وقد تحدَّث فرويد عن تلازمهما في اللاشعور الإنساني، وامتزاجهما معاً فيما يكوِّنه من غرائز، ممثلاً على ذلك بلذة الطفل في عض ثدي أمه.
لقد كان مقتل الابن ياسين بدعوى الجهاد في أفغانستان، دلالة الموت الصادمة التي اجتاحت أباه يوسف الفرسيوي، منذ قرأ الرسالة التي تحمل الخبر، في مستهل الرواية، بصيغة ممعنة في الإيذاء، هي صيغة البشارة والتهنئة التي تشبه في سياق يوسف السخرية منه والاحتقار له. وهو المعنى الذي لا ينفصل عن شكل تلقِّيه للرسالة بإسناد إبلاغه بها إلى مجهول، واختفاء هذا المجهول، أو احتجابه، لأن يوسف وجد الرسالة وقد «سُرِّبت من تحت الباب». الرسالة والمجهول والبشارة وياسين كلها، الآن، كتيبة الموت التي تواجه يوسف في الصباح وهو يتأهب للخروج إلى عمله، أي تواجه يوسف الذي تصنع الرواية دلالته على اللذة والبهجة والحب والحرية والعدالة والمعنى الإنساني، وفي وقت الصباح هذا المعنى المكتنز بدلالة الإشراق والضياء واليقظة والانبعاث والتفاؤل وعودة الحياة ونموها التي لا تنفصل عن دلالة التأهب للخروج بل تلازمها تلازماً يعطفهما على بعضهما ليقتضيان يوسف، في إشارات متآلفة في الدلالة على الحياة من الجهة المقابلة لدلالة الرسالة.
وكانت آثار موت ياسين على أبيه، على نحو ما صنعتها الرواية، موتاً جزئياً، اغتال مجسات اللذة والألم وحواسهما، فتراخت طاقة الإيروس وغريزته التي تدفع إلى الرغبة وترقى بالكائن إلى مستوى الاختيار. ويوسف نفسه يصف تعايشه مع الصدمة من هذه الزاوية، حين يقول: «ثم وطَّنت النفس على قبول ما حصل لي كنوع من الموت الجزئي، لأنني عندما أتذكر نفسي مستمتعاً، شغوفاً، متذوقاً، أو معجباً، فكأنما أتذكر شخصاً آخر توفي قبلي، وعليَّ أن أقبل بما تبقى مني حتى ألحق به»!. لكن هذا الموت الجزئي الذي تلبَّس يوسف ليس ناتج الصدمة تجاه موت عادٍ، إنه ليس فقط فقداناً للابن الوحيد، ليس –مثلاً- موتاً للابن أو لعزيز عليه في حادثة سيارة أو قطار، وليس موتاً في اعتداء ما عليه، إنه فقدان لمعان أكبر وأوسع نطاقاً، وهذا ما جعل الصدمة من طبيعة أخرى. ولذلك يروي يوسف أن الضابط سأله، في التحقيق الذي أجري عن مقتل ياسين: «هل أنت حزين لما حدث؟ قلت صادقاً: لا، لست حزيناً». وهو لو كان حزيناً لكُنَّا في دائرة الفقدان لشخص الابن، لكنّنا هنا في دائرة الانهيار الكلي لمعنى البنوة والنسل، لمعنى الحياة، لأن النسل دلالة استمرار للحياة وإرادة لها. وذلك متفرع عن طبيعة نوعية في موت الابن تصل بينه وبين إجرام يعادي الحياة، وعن حيرة وذهول في حسابات المسؤولية لما اقترفه الابن.
هكذا يصبح مقتل ياسين، الذي يحيل على نسق الإرهاب، بما هو معروف عن كوادره وأدبياته من احتقار الحياة، والتلهف على مجاوزتها طلباً لـ(الشهادة) دلالة موت عام وجذري، بحيث يحل الموت، من هذا المنظور محل الحياة، ويهيمن الثاناتوس مقصياً الإيروس، أو محولاً لغريزته إلى شهية الدم والقتل الإجرامية! وهذا هو المعنى الذي أمات يوسف جزئياً وجاوز بصدمته تجاه مقتل ابنه معاني الفقدان والحزن إلى معاني انهيار الحياة وتوقفها. ولهذا رفض يوسف طلب زوجته الإنجاب ثانية لتعويض ياسين، وقال مخبراً عن موقفه من ذلك: «اقشعر بدني، ورأيت في ثانية كل الجحيم الذي سأعْبرُه من مصحة الولادة حتى مجاهل قندهار، فنهضت من جلستي متوتراً، وقلت بحسم كامل ولا رجعة فيه: لن يحدث ذلك أبداً!». والنتيجة هي انهيار العلاقة الزوجية، بين يوسف وزوجته، وطلاقهما، أي انهيار الحب، وانهيار الحب علامة مضادة للحياة، لأن الحب كينونة إيروسية، وهو من هذه الوجهة، ممارسة للبقاء والبناء والتكامل، وممارسة للشعور بالذات وتحقيق وجودي لها.
الموت، إذن، في مقابل الحب، أو في معارضته، هو المعنى المطابق لمقابلة الموت للحياة، أو معارضتها، وهذا ما يمتد بوجوه التقابل والتعارض المؤسَّسة على الموت بصفته التي تتعلق –خصوصاً- بمقتل ياسين، وهو المحور النصي للرواية، إلى مقابلة الموت للجَمَال الذي يغدو دلالة حياة ولذة، وذلك بقدر ما هو دلالة اختيار ورغبة أي دلالة حرية. ودلالة الجمال على هذا النحو هي موضع التعارض والتناقض الحاد مع فكر الإرهاب، الفكر الذي يصبح موت ياسين علامة عليه ومقتضى له، وهو فكر لا يقدِّر المنجز الحضاري والإبداعي الجمالي للبشرية في شموله وعمومه. وهذا هو ما يظهر في الحوار بين ياسين وأبيه، في إحدى الظهورات الخيالية لياسين التي احتالت بها الرواية لاستحضاره، وعبرت بها عن استحواذ لغز موته على أبيه وعلى خطابها. والأب، هنا، يروي: «مرَّت أمامنا رافعات ضخمة وآليات حفر ومخلطات اسمنت فاختنق الشارع ودبت فيه حركة متوترة. تساءل ياسين عما إذا كنا نبحث عن كنوز في أحشاء العاصمة، فرحت أشرح له لماذا تعرف الرباط إنجاز مشاريع كبرى، مدناً جديدة وساحات ومناطق سياحية، ومتاحف وقاعات... قال ياسين إن الشعب يحتاج إلى الخبز والدواء وليس إلى عاصمة جميلة. فحسبْتُ ذلك على الطالبان، وحاولت تصحيح الأمر بالتأكيد على ضرورة إنتاج أكبر ما يمكن من الجمال، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للانتصار على اليأس».
هذا الجمال الذي يقضي على اليأس، يعني أن اليأس قريب الموت ونسيبُه في الحيلولة دون المتعة، وانتزاع طاقة الإيروس من الوجود. ولهذا يغدو اليأس مقابلاً للحياة ومعارضاً إياها. وأتصور أن الرواية تحيل الفكر الإرهابي على اليأس، أكثر من أي شيء آخر، وذلك في الترابط العضوي نفسه الذي تنسج به العلاقة بين أزواج التعارض والتقابل التي يقف في مبتدئها أو في نتيجتها –لا فرق- الموت والحياة. واليأس، هنا، مناخ انسداد وانحصار ثقافي اجتماعي، ولذلك تتناثر الإشارات الدالة عليه في الرواية وتتكاثف عابرةً المسافة بين الفردي والاجتماعي، ومن بعض الوجوه نجدها تتخطى هذه المسافة إلى المعنى الوجودي نفسه، معنى الاختناق الإنساني، أو ما يأخذ عند سارتر صفة (الجحيم الوجودي) الذي يلازمه القلق وإحساس العبثية.
فالفرسيوي الجد، يقول لابنه يوسف: «من يستطيع الإفلات من الحياة؟! لا يمكنك أن ترجع إلى الوراء. ولا يمكنك أن تهرب إلى الأمام، الحياة كما تعرف يا ولدي ورطة حقيقية». أما أم يوسف وهي من جنسية ألمانية، فقد انتحرت، وانتحارها يترجم عن تمثلها لمعنى ورطة الحياة الواردة في كلام الفرسيوي زوجها التي تنم عن اليأس، والتفاصيل التي توردها الرواية عن هذا الانتحار هي التي جعلت الأب متهماً من قبل ابنه بموت أمه. فقد طلبت الأم من أبيه، في نزهة للصيد، أن يقف بالسيارة لترى غروب الشمس، وأمام مشهد الغروب أخبرها الأب أن الشمس ستذهب في يوم ما ولن ترجع أبداً، أو ستشرق من الغرب، وسألَتْه عن سبب ذلك، فأخبرها بأن «ذلك سيكون يوم القيامة! حيث لن نحتاج لا إلى عُمله ولا إلى طاقة ولا إلى أسلحة، سنحتاج كلنا بغض النظر عن أصلنا وفصلنا إلى شيء واحد فحسب!» وسألته: ما هو؟ فأجابها: «الظل يا عزيزتي. الظل!». وساد الصمت، وتصور الفرسيوي، فيما يرويه ابنه يوسف، أنه أفحم الوالدة بعبقريته الريفية... وعندما استدار، لم يجدها، وسمع الطلقة النارية كأنها تحت هيكل السيارة، فاندفع مذعوراً ليراها ممددة بلا جمجمة تقريباً. ونجد أيضاً في الرواية انتحار المغنِّي عبد الهادي صديق إبراهيم الخياطي أحد أبرز صديقين ليوسف في الرواية، لأسباب تحيل أيضاً على انحصار الحياة الاجتماعية وضيق فضاء الحرية. واليأس –أيضاً- هو المعنى الكامن وراء مقولة والد بهية زوجة يوسف، التي كان يرددها: «ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى» مجيباً على اعتراض يوسف بعدم استقامة المعنى دون إكمال العجز، بأنه يستقيم وزيادة؛ «لأن النكد كله هو أن ترى!». وهو –كذلك- المعنى الكامن وراء المرارات التي يصفها يوسف بالكثرة في الأجواء العامة، وهو يشير بذلك إلى الفساد والبَزْنَسَة ومافيا العقار والمحسوبية والسرق عدم سيادة القوانين أو كفايتها. ولا ينفصل عن ذلك الانكباب على النفس لاستخراج كل ما يعزز القناعة بعبث العيش في الأوهام، ثم الاستسلام الذي هيمن على الساحة، وأصاب نصيب منه، فيما يصف يوسف، جيلهم بمزيج من درْوشة، وتصوف علماني، وروحانية حديثة.
وتستفيض الرواية في التأشير على مرارات الذات أمام الواقع، مكثِّفةً إحساس اليأس الذي أفقد الحياة معناها، والاختناق الواقعي والوجودي الذي أزهق معاني الوجود، وحاصر طاقة الإيروس مزيحاً عن مدى النظر كل إمكانيات اللذة والبهجة والسكينة وأسبابها. فالاستيلاء على أرض بهية أم ياسين وإخوتها، واليسار التقليدي وقد أصبح - كما وصفته بهية- يسبِّح بحمد السلطة المطلقة، وينتشي بالإذلال الجماعي، وقولها مغتاظة عقب كل مكالمة مع المحامي بشأن الأرض: إنها لا تفهم كل هذا التشدق بالديمقراطية والحداثة في بلد ليس له أدنى احترام للفردية ولا للملْكية، أمثلة تفضي إلى ما تفضي إليه معاني الألم التي يبثها والد بهية أستاذ اللسانيات الذي أسهم في تحديث الجامعة المغربية، ولم يتحمل ما يسميه بانهيار المغرب المستقل، وتآكل المدرسة المغربية، وتبدل القيم وهيمنة التسابق على المال، وتلا شي اللغة العربية وصعود طبقة الأغنياء الجدد... وهو المعنى نفسه الذي تبثه الرواية من خلال صور فضائح العقار التي يتيح عمل يوسف الصحفي التحقيق فيها واكتشافها بما يثير إحساساً مريراً بتمكن الفساد، وفي حديث يوسف مع صديقه إبراهيم عن سرقة بعض التحف والتماثيل الأثرية، يقول إبراهيم: «لقد تعوَّد الناس على مشهد السرقة حتى أصبحت جزءاً من التقاليد المرعية».
وهو المعنى الذي لا ينفصل عن الإشارة إلى بروز محيِّر لشبكة تجار المخدرات وللقضايا الأخلاقية وكثرة قضايا الجنس الفاضحة وشيوع أخبارها والتعداد الذي يسمِّي أبرزها. وفي المقابل يبرز التيار الديني، مهدداً باكتساح الانتخابات العامة، حيث وقوع الحياة بين «كماشة الطالبان» كما يعبر يوسف، وأن «المدن ستصبح مدناً منكوبة نفسياً لا يسليها سوى التفجيرات!».
وبذلك تصوغ الرواية تقابلاً بين تيار البَزْنَسَة من جهة والتيار الديني من جهة أخرى في التصارع على افتراس الواقع. هذا الافتراس الذي يغدو إضافة تزيد في معنى الموت وتعمق الوعي به بوصفه امتداداً لليأس ووجْهَه الآخر الذي يقابل الحياة. وقد اتخذَتْ الرواية من تمثال (باخوس) بما يرمز له من حياة وبهجة وكان والد يوسف يحتفظ به تحفة نادرة في فندقه وحادثة اختفائه ثم الاكتشاف له مسروقاً لدى تاجر عطور فرنسي شهير يسكن في عمارة أحمد مجد صديق يوسف، أحد وجوه تمثيلها لما تلعبه البَزْنَسَة والفساد من سلب لمعاني الكينونة ومرادَفَة ما يضاد الحياة. ومن الواضح أن المعنى الذي تدلنا عليه شبكة التعارضات والتقابلات في الرواية على نحو ما رأينا، هو معنى متصل بسؤال العلة في موت ياسين، أعني منشأ الإرهاب وعامل إخصابه، وهو ليس معنى يفسر –فقط- علَّة الإرهاب المتولدة عن حياة يائسة، بل ويعرِّفه –أيضاً- بأنه عبث عدمي معاد للحياة ونقيض لها بالكلية. ولهذا تغدو الرواية إدانة جارحة حقاً للمجتمع المغربي والعربي بأطيافه وأطرافه وتياراته الفاعلة والمستسلمة والهاربة!.
-
+
- الرياض