على ضوء إشاراتنا إلى مكوناته الثقافية والمعرفية، يمكننا أن نتوقف في مختبره أمام الأسئلة التالية:
من أي محرض للكتابة يستقي هذا الجلد المثابر لتدوين مقالاته؟
من أي موقع يقاربها عبر أكثر من أربعين عاماً؟
من أي نسيج، و بأي أدوات فنية ينجز هذا النتاج الخصب؟
وقبل أن أقف على هذه العناوين، أود الإشارة إلى أنني، وضمن رؤية افتراضية، حسبت أنني بقراءتي المتأنية لما طبع من نتاج محمد العلي، سأكون قادراً على رصد ملامح مسارين رئيسين يرتبطان بالزمن، وهما: تطور أدوات التشكيل الفني، وتطور أو تبدّل الرؤية والموقف عبر أربعين عاماً، غير أنني لم أجد في كتاباته ما يشير إلى أيٍ منهما.
وحيث لا أمتلك وثائق مدوناته في كتابة المقالة القصيرة قبل بداية نشره لمقالاته في جريدة اليوم عام 1969م، فإنه يمكنني القول بأن التغيير الجذري الذي طال رؤيته وموقفه وأسلوبه الفني، قد حدث كقطيعة مع ماضيه الذي انتهى حين قام بخلع عباءة الشيخ الديني(مطلع الستينيات)، ولذلك سوف يدهشنا أسلوب كتابته (لغة وأدوات)، وكأنما ولد كاتباً مكتملاً منذ أول مقالة نشرها وحتى اليوم! (سنقارب ذلك في فقرة، النسيج والأدوات الفنية).
كما أننا سنرى رؤيته ومواقفه وقد أصبحت كشجرة نامية، لم تغير موقعها أو لونها، فيما تضرب بجذورها المعرفية في الأعماق، وتنتصب في الأفق حيث تزداد فروعها اشتداداً وأغصانها الحية امتداداً، عبر الزمن، متفاعلة مع كل الحقول المعرفية، والمتغيرات والتحديات الجديدة.(سنوضح ذلك في فقرة، الموقع - جدل العقل النقدي).
كانت بوصلة رؤيته قد حددت خياراتها مبكراً، فكراً وموقفاً، وما برحت تشير إلى آفاقها الواضحة، ولذلك ينتقد في مقالة قصيرة، نشرها مؤخراً في جريدة اليوم ( 9-10-2010م)، «ظاهرة الترحّل الفكري» بقوله: « ما الذي جعل هذا « اليساري « المدجّج بالحماسة والحامل لأكثر من سيف، لينقلب إلى يميني سابح في أحواض الميتافيزيقيا، ويحمل حجارة من سجيل لرجم أعدائه؟»
ثم يجيب على تساؤله :» إن المسألة مسألة قيم .. فهذه القيم التي انطلق منها هذا الفرد، إما أن تكون متعلقة بالإنسان وتحقيق مستقبله الأفضل..وإما أن تكون متعلقة بالفرد نفسه لتحقيق الذات أو الشهرة أو قطف الفوائد مادية ومعنوية».
وحين قرأت هذه المقالة تذكرت أنه قد أشار إلى مضمونها، حين طرحت عليه - في مرحلة مبكرة من علاقتنا- هذا السؤال: هل يحمل كل اليساريين مثل صفاء مشاعرك الإنسانية وانشغالك بقيم الحرية و العدالة الاجتماعية ؟ فأجابني بشيء من الألم: نعم هناك الكثيرون ممن يحملون هذه المشاعر، ولكن هناك الكثيرون أيضاً ممن تغلب عليهم المشاعر الفردية والذاتية»؟
وسنحاول مقاربة الإجابة على الأسئلة الواردة في مقدمة هذه الفقرة عبر الوقفات التالية :
أ - المحرض:
إذا ما تجاوزنا المحرض الداخلي الباحث عن تحقيق الذات، لأنه يعد أحد المكونات والاحتياجات الفطرية لكل إنسان، كما ورد في «هرم ماسيلو « الأثير لدى كاتبنا، فإننا سنقف على جدل المحرض الداخلي والخارجي- الموضوعي، في إحدى مقالاته الهامة في هذا الصدد، والتي تنخرط في مجال التحاور مع معنى الكتابة و استهدافاتها، وهل نستمر في الكتابة أم نغادر مواقعها؟
ويبدأ وقفته على ذلك باستعادة سؤال وجهته جريدة «عكاظ» إلى المفكر «إدوارد سعيد» حول ما هو موقف المثقف العربي إزاء التحولات السريعة والتحديات التي يجابهها؟»، وإجابة «سعيد» عليه: « أهم رسالة للمفكر العربي هي استمراره وبقوة في المدافعة عن حرية التعبير، وفرض لغته الخاصة، وأن يرى الأشياء لا كما هي، بل كيف صارت إلى ما هي عليه»..
ثم يوضح موقفه بعد ذلك بقوله: « هذه الإجابة تجعل من الخروج الطوعي من مضمار الكتابة هروباً أعمى (أولاً) وليس سقوطاً أخلاقياً (ثانياً)، بل بالإضافة إلى ذلك تجعل منه تخلياً عن الوجود الشخصي نفسه، لأن عدم فرض لغتك الخاصة معناه التخلي عن وجودك ذاته». (العلي – شاعراً ومفكراً - ص 50)
إذن لم يعد خيار ترك الكتابة مساحة للتأمل أو فضاءً للمراوحة، بل غدا أمراً محتوماً لا فرار منه، حيث يتحقق في مضمار الكتابة تحقيق معنى و متعة اقتران أمرين أساسيين هما: الرغبة في تحقيق وجود الذات، والتعبير عن المسئولية الإنسانية و الأخلاقية للمثقف، حيال ذاته ومجتمعه و وطنه أيضاً.
ب - الموقع: (جدل «العقل النقدي»)
هنالك أرضية خصبة وصلبة وديناميكية، يقف عليها «العلي» كموقع يحلل من خلاله ثقافة الماضي والحاضر والرنو إلى المستقبل، وتتشكل من بنى عديدة أبرزها: الملكات الذاتية (كالذكاء، والجرأة، والاعتداد بالذات، وسرعة الاستيعاب، والذاكرة، والمقدرة على التحليل، و الانفعال بالفكرة، والموسوعية المعرفية، وامتلاك بذور جدل «العقل النقدي» القادر على مراجعة المسلمات واليقينيات، الذاتية والموضوعية معاً).
وقد أعانته هذه المقومات، ومنذ وقت مبكر، خلال مرحلة دراساته الدينية في «النجف» (من 1948 م - 1960) على إعادة قراءة مكوناته الثقافية المكتسبة عبر تحصيله المنهجي المعد سلفاً، كما شجعته على فتح باب القراءة الحرة المغايرة لذلك «المكوِّن»، حتى مضى بكل شجاعة إلى تدشين مرحلة صراع من أجل تكوين رؤية معرفية وعقل نقدي جديدين .
لقد خلع «العلي»، ومنذ أن غادر طريق متابعته لدراسة المنهج الديني وسلك طريق التعليم المدني، رمزياً وثقافياً عباءة وعمامة « رجل الدين « واختار طريق «طالب المعرفة»، متخلياً عن مسار «العقل التقليدي» ومنحازاً إلى فضاء بناء «العقل النقدي»، حيث سنرى بأن العقل الذي يحكم منظوره المعرفي، منذ تلك اللحظة الفاصلة، لم يعد «عقلاً فطرياً ومبادئ قبلية مطلقة خالدة، ومتأصلة فيه، وسابقة على كل تجربة، وإنما أصبح مشروعاً لعقل ديناميكي منفتح يساير تحولات المعرفة والواقع» ( عن تحليل للدكتور خالد العبيوي في مقالته عن «العقل « موقع جيران الإلكتروني) .
وسيعمل منذ ذلك الزمن البعيد، و بجرأة لافتة، على تجاوز مكوناته الثقافية، ببنيتها « البيانية و العرفانية» - بحسب أطروحة الجابري -، لا لتأسيس قطيعة معرفية مطلقة مع «التراث» وإنما لتجاوز بنية «العقل» السكونية والأسطورية التي هيمنت على إنتاج الثقافة العربية، قروناً طويلة.
وبهذا العمل الرمزي الفاصل استطاع تجاوز رسوبيات طبقات الثقافة التقليدية وبنيتها العقلية اليقينية، والانحياز إلى تجربة مغايرة، تستند إلى عمق معرفي جديد و رؤية نقدية قادرة على استخدام أدوات التحليل والشك والتساؤل لمقاربة كافة البنى الثقافية السائدة، بما فيها المحمول الماضوي.
وبنفس الموقف الحاسم والقاطع مع الرؤية التقليدية، شكّل كياناً شخصياً مستقلا على مستوى البعد الثقافي الواقعي والرمزي، للمثقف الحر والصادق مع ذاته و مع قراء كتاباته الصحفية منذ بدأها في جريدة اليوم في عام 1969م وحتى اليوم، فلم يرضخ لضرورات السير مع القطيع، أو ينحني لجني صفقات الأرباح بالتكيف مع أدوات أو مغريات التهجين المؤسساتية، مثلما لم يكتب مجاملاً مؤسسة أو مسئولاً أو صديقاً أو كاتباً، ولم يرثِ قريباً أو حبيباً في زاويته إلا نادراً، و أخلص فقط لتدوين ما يؤمن به تماماً، وضمن أفق رؤيته النقدية، رغم ضيق الحيز المتاح للتعبير الثقافي الحر في صحافتنا، وإكراهاته المستبدة.
و رغم ما يتبدى في القليل من كتاباته أو حواراته من انفعال، قد يخرجها عن معيار رصانة وحكمة «العقل «، إلا أن الفلسفة الحديثة ستجعل ذلك الانفعال وجها مكملاً لـ»العقل» المعرفي عند المبدعين - باعتباره شاعراً مبدعاً- حيث يقول « granger «: إن لا عقلانية الهوى (والانفعال) لا تعني أبداً عدم التماسك، فقد يكون سلوك الهوى منطقياً تماماً، ومعقولاً في ذاته، بالنظر إلى الأهداف التي يتوخاها « (د. عبيوي - المصدر السابق).
ولكل هذا التكوين المعرفي الذي يسترشد بنواميس العقل والعلم والحرية، و لما ينطوي عليه «العلي» من مقومات أخلاقية، فإنه ينحاز دائماً إلى مثالات تحقيق «العدالة الاجتماعية» ورفع رايات حرية الفكر والرأي والإبداع، من أجل رقيّ الوطن بالإنسان، مهما جابه من تحديات أو تحمل من تبعات!
لذلك لا غرابة في احتفاء أوساطنا الثقافية المستمر به، باعتباره أحد المثقفين الطليعيين الذين تنطبق عليهم مواصفات «المثقف العضوي»، بحسب المفكر «غرامشي».
-
+
- الظهران