يحظى المألوف بقدر لافت من الكاريزما الطاغية على نحو يبدو معه ذا طابع سرمدي لايمكن تغييره وهذا مايجعلنا نلحظ أن معظم الذوات تفقد الحافز على التغيير فالواقع الذي تعيشه تعتقد أنه مظنة الديمومة وطول الأمد ولذلك فهي عندما تنسجم مع فكرة معينة وتألفها بعمق تظل أسيرة لها وتندغم في إطارها حتى تتمركز تلك الفكرةعلى سطح الوعي على نحو يتعذرمعه مساءلة مضامينها أو الشك في مدى موضوعية محتوياتها أوأنها قد لاتثبت إبان عرْضها على أدوات الابتلاء الثقافي.
إن التعلق المرضي بالسائد، فقط لمجرد أنه سائد يعد من أشد الأمور خطورة على وجودنا المعنوي وهو الشأن الذي ساهم ولايزال في نسج ذلك الواقع المتدني الذي نكتوي بظِلالاته الشعور الشديد بوهن الكفاءة الشخصية وانحسار الذات هو ما يولد لونًا من النهم المفرط في التفكيرالتماثلي الذي يسعى بجهد دؤوب لتجسيد التلاؤم مع المناخات المعتادة، فهو مسكون برهبة بالغة من مخالفة المألوف على نحو يحدو نحو الاسترسال المتعمق مع ذلك المعنى الشائع والتشبع بمعطياته وعدم إثارة أي شبهة حول مكوناته. الانبهار بالمألوف - المفتقرلمسوغات موضوعيته - يشكل الأساس العميق والمحرك الداخلي لرفض التغيير ولذلك يظل المسكون بهذا الانبهار مستسلماً للجو السائد مندغماً في الحالة الذائعة يتهيب الخروج على التيارالعام ويفْرق من سماع النغمة المغايرة فيتعطل جهاز التفكير لديه ويفقد الاتصال بالحاسة النقدية تحت الرغبة الجامحة في مجرد الانسياق مع الوضعية الشائعة، وقديماً تجافى التيار القرشي في مكة عن التفاعل مع الأطروحة النبوية تحت ذريعة ضرورة التماهي مع الموروث الأبوي «إنا وجدنا آباءنا». البنية الحيوية لاتقبل بذلك الجمود وإنما لديها مبدأ الإصغاء للصوت المباين وحظ الوعي على تفهم حيثياته ومن ثم المحاكمة المفلترة لجزيئات تلك الفكرة وعلى ضوء ذلك يتم القبول المطلق أوالرفض المطلق أو - وكنوع من المراوحة في المنطقة الرمادية - امتصاص المعاني الموشحة بالموضوعية ولفظ ماعداها.
إن الخوف من متتاليات الخروج على إطار السياق الجمعي من أعظم العقابيل الحائلة دون كثير من التغيير؛ ثمة فئات قد يتسلل الى ذهنها قناعات معينة بصوابية بعض الآراء لكن تمارس عليها نوعاً من الالتفاف لماذا؟ لأن تلك الآراء ليس لها عمق اجتماعي ولا تحظى بترحيب شعبي!
الفرَق من مباينة ما هو مكرس في بنية البيئة يحدو للتنازل الاضطراري عن التعاطي مع ما ورد إلى الأذهان من خواطر إبقاءً لجسور التواصل الودي مع المغاير. إن التربية القائمة على القسر والإكراه لا تنتج بالضرورة إلا كائنات متماهية بالفطرة حيث التماهي الشكلي بحد ذاته وبصرف النظرعن مدى مصداقيته هو المطلب الجوهري لتلك الفئة فهي لا تنعم بالأمن النفسي ولاترفل في خيراته إلامن خلال المحاكاة العفوية والاستنساخ التلقائي الذي يؤَمّن قدرا من التناغم مع منطق التجانس العام. التآزر مع الأفق المألوف هو المعيار الذي تنبعث من خلاله تلك الشريحة لمحاكمة كافة المفردات.إن التعرض للاحتكاك مع الرؤى المغايرة يوسع الأفق ويعمق المعاينة ويُوقف وعن كثب على الثغرات البنيوية في تضاريس الأنا على نحو يحفزها لتدلف في ضرب من المقارنة والموازنة والجنوح من ثم نحو الترشيد ومباشرة الحراك التصحيحي الواسع.
إن الحاسة الاستشعارية جبلت على الاشتغال داخل إطارات معينة وعلى ضوء شروط تفقد واقعيتها عندما لاتضعها في عين الاعتبار إبان التعاطي مع الأشياء وهي أيضاً ليس بمقدورها مباشرة نشاطها إلابالخضوع لأنماط معينة تحددها الخلفية الثقافية التى تشربتها وتشبعت بخطوطها العريضة. أحياناً تلك الحاسة تصاب بالضمورفمع توالي تقادم السنين تتولد لديه رغبة في التماهي مع الخطوط المتعينة في المحيط المُعاش فتخضع لها وتمتص إملاءاتها نتيجة لطول مؤالفتها وبالتالي تبيت المخرجات عبارة عن إعادة إنتاج لذلك الجوهر السائد وإثراء كمّي لمعطياته المألوفة وليس من اليسيرعلى ذي كياسة أن يبدع ويتشكل لديه طوفان من التداعيات الذهنية في ظل تناغمه مع أدبيات عبقرية المكان والاتجاهات البيئية المتموقعة وعدم قدرته على تجاوزها والانعتاق من ربقة أسرها النمطي البالغ الضيق والمحدودية. هذا الانعتاق من موجبات الانطفاء مشروط بتجاوز تلك البيئة الضيقة والتي تغذي ذهنيته بالصور والنماذج، إنه مشروط بالتعرض لمنظومة من التلون الرؤيوي ليقف وعن كثب على ألوان المغاير ومن ثم الشروع في مقارنة بَيْنية تتيح له معاينة المثالب والمحامد ومن ثم الصيرورة إلى ما هو أولى بالاعتناق. مهماكانت درجة التألق لدى المرء إلا أن للمناخات المحيطة إبان الانصياع لمقتضياتها أثر سلبي في إفساده وارباك توازنه وإجهاض ملكاته. إن كل الأعمال الإبداعية العظمى وكل الإنجازات الحضارية اللافتة التي صاغت ملامح التقدم لم تكن لتتخلق ولم نكن لنستمتع بألقها لولا مفارقة المعتاد، ومعاكسة المتعين - أيّا كانت ملامح بنيته - وتدشين آليات أخرى للتعاطي مع الم عطيات المتاحة بطريقة ترشح لتجاوز حالة الانحباس الثقافي الذي بلظاه يصطلي المجموع.
-
+
- بريدة