التنمويون يؤمنون بالتنمية الاقتصادية طريقا للتغيير، والإصلاحيون لا يرون للتغيير طريقا إلا أن يمر بالتعديل في الحكم السياسي، والتربويون يقسمون على التعليم أولاً وأخيراً، والمثقفون لا يتوقفون عن التأكيد بأن القراءة هي ما يفتقده المجتمع كي يتغير، والإنسان السعودي الذي يرفض واقعه بشكله الحاضر ولديه رغبة واضحة في تغييره، يشعر أحيانا أن أحدا من كل الأطراف لم تنجح دعوته بآثار فاعلة تنعكس على الواقع، فهل يمكن اليوم اعتبار المشكلة في أن فجوة ما قد بدأت تتشكل بين الوعي الاجتماعي وواقع الدولة؟ بصياغة أخرى، كل الأطراف تعرف دعواها الطريق الصحيح للتغيير لكنها تنتظر فقط لقرار الدولة كي تنجح؟!
ليس المعنى في الحل؛ كلاشيه أن يعترف كل طرف بقيمة دعوة الطرف الآخر، لكن المعنى في المشكلة؛ أن يسلم الجميع بأن دعواه قد نضجت وأن التغيير مجرد ثمرة ستقتطفها الجهود، إنه فارق الوعي الذي يتكشف مع الوقت ويكشف عما وراء المشاكل، والفرق هو في أن الكثير الغالب منا يعتقد أن الحلول معروفة والمفقود هو تنفيذها فقط مثل حل تغيير المناهج، وهناك الكثير ممن يظن أن الحلول منفذة واقعياً لكنها غير مفعلة اجتماعيا كبعض القوانين الإدارية، لكن أحد منا لا يشك لوهلة ما أنه لا يعرف، لا طرف من هذه الأطراف يعتقد أنه لا يزال يجهل المشكلة ويعجز عن تحديدها، ليس منا من يشعر بالحيرة التي طبعت لحظة وعي مفصلية في التاريخ الإنساني.
الجميع يتحدث عن أزمة الوعي، وهي أزمة كل الأطراف معنيٌ بحلها، لكن لا أحد منهم معني بنفسه أو بحلوله، وبأنه ودعوته أحد أسباب الأزمة أو أنه نتيجة لها أو حتى أحد أعراضها الجانبية، الإصلاحيون السياسيون اليوم يمجدون ثورات الآخرين، يتجيشون داخل صفوف شبابية برايات الحرية والعدالة الاجتماعية، هل يدرك الإصلاحيون أن حلهم الإصلاحي الآن ليس إلا أحد الأعراض الجانبية لمحاولة سابقة فاشلة لهم أوائل التسعينات الماضية، أليس في حلهم تصفية حساب سابق؟ وإلا لماذا لا نسمع حلول الإصلاح إلا من الإسلاميين فقط؟ هل وحدهم كطرف يدرك قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؟ فلماذا إذن تقتصر مطالبهم في هذه القيم على الحكم السياسي ولا يرفع أو يهمس أي صوت أمام الاستبداد الديني باسم حرية الإنسان في حياته؟
الإصلاح السياسي على هذا المنوال مشكلة وليس حلا، لكنه يقدم اليوم كمطلب ملح لحل مشاكل الفساد، إذن من الممكن فعلا اعتبار المشكلة اليوم في الفجوة التي بدأت تتشكل بين الوعي الاجتماعي وواقع الدولة، لكن ليس لأن الدولة لا تستجيب أولا، بل لأن الوعي مضلل، وعينا الاجتماعي في أشكاله الثقافية والإصلاحية والتربوية وعي منقوص ومحدود في إمكانياته المعرفية، وعي مبني على جهل مثقفيه ومصلحيه التربويين والإصلاحيين ومحكوم تقدمه بهم، الوعي الذي لا يستهدف الناس في بيوتهم وفي أنفسهم وفي حياتهم الشخصية هو وعي شكلي ومضلل ولا يحترم الإنسان، بث الدعوة في قلب الإنسان دون عقله دعوة حيوية وحيوانية في آن، دعوة المواطن ليقفز إلى الشارع كي يسقط النظام قبل دعوته لنزول الشارع كي يقيس المسافة بين حريته وبيته هي دعوة جاهلة بالمدنية ومعاني التمدن، وكل وعي يعتقد بفداء الإنسان لمبدئه أيما كان هو وعي بدائي لم يعرف الإنسان المدني ولن يعرفه.
الدعوة الثقافية مجموعة شذرات منعزلة، لا جماعة في الوسط الثقافي أنتجت مشروعاً مشتركاً يعادل حاجة المجتمع للتغيير، الاسم المثقف منجز فردي، لكن الإمكان المعرفي للمثقفين محدود ومنعزل في موضوعاته، الأسباب الاقتصادية التي حكمت المجتمعات الأوربية وأسست مفهوم الدولة المدنية وواقعها، هي ذاتها الأسباب التي أشعلت الحرب الأهلية في مرحلة أرخت لصناعة القطن وتحرر العبيد كأحد أهم مراحل المجتمع الأمريكي، لكن أي مثقف سعودي اليوم وبالأمس لم يستطع تقديم أي تفسير ثقافي عن الأثر الاقتصادي في تعطيل حركة التغيير الاجتماعي بالسعودية، الدعوة الثقافية حلقة في سلسلة الوعي المضلل، فهي ترفض الشرطة الدينية ومحتسبيها منذ ثلاثين عاماً لكنها تجهل أو تتجاهل أنه ميثاق الدولة وركيزة تأسيسها، الدعوة الثقافية دعوة مهللة ليست جادة في الوقوف مع تاريخها.
ثمة فجوة إذن بين الوعي الاجتماعي وبين الواقع، الأطراف التي تدعو للتغيير وتنير طريقه، تقدم دعوات فقيرة ومعزولة وغير جادة، ليست المسألة في صدق الدعوات ومصداقية الأطراف، الحقيقة ليست أخلاقية والواقع ليس محكمة إدارية والفكر الاجتماعي ليس قضاء، الوعي إزاحة والفكر الإنساني المدني سباق لا نهائي مع لا وعيه..
-
+
Lamia.swm@gmail.com
- الرياض