قراءات استطلاعية في 71 كتاباً بالتمام والكمال، موزعة على 100 صفحة من الحجم الكبير، مع ملفات عن الرأسمالية وتنظيم «القاعدة» وأعطاب شبكة «غوغل»، هي بعض معالم عدد نيسان (العدد 21) من شهرية «الكتب» الفرنسية، والتي رسخت اسمها في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي في ظرف وجير زمنيا، مقارنة مع منابر إعلامية أصبحت مرجعية في تناول ومتابعة المشهد الثقافي في القارة العجوز وفي العالم بأسره (نذكر منها على وجه الخصوص، شهرية «المجلة الأدبية» الشهرية، مجلة «الفلسفة»، مجلة «إسيبري» الرصينة).
تأسيس الخط التحرير للمجلة على الكتب والمؤلفات يبدو جلياً ليس فقط في طبيعة القراءات النقدية والاستطلاعية التي تحفل بها، وإنما أيضا في طبيعة باقي المحاور (المقالات والحوارات على الخصوص) والتي يتم التمهيد لها عبر الإشارة إلى اسم ومؤلف الكتاب المؤطر للمحور.
من الأفكار الإبداعية في العدد، تلك التي تهم «قصف» القارئ في الصفحة الثالثة بلائحة من المقولات الصادمة والدالة، قبل عروجه على محاور العدد في الفهرس، ونجد منها المقولات التالية: الأشخاص يقاومون الموت طالما لديهم ما يُعبرون عنه؛ إذا كانت أرقام الاقتصاد معرضة للصعود، فإن الأمر ليس كذلك مع نظامنا البيئي؛ مقابل فرنسي واحد قرأ للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، هناك عشرة أمريكيون تجولوا مع أعماله، وهذه خلاصة مقتبسة من إحدى القراءات التي يحفل بها العدد، والمخصصة لعرض أهم ثنايا آخر الدراسات الصادرة عن مشروع الراحل، وصدرت للمفكر البلجيكي بونوا بيترز، تحت عنوان: «دريدا» (2010).
وما دمنا نعيش في زمن ما بعد رحيل أسامة بن لادن، فقد تضمن العدد قراءة استطلاعية في آخر مؤلفات بيتر برغن، الصحافي والخبير الأمريكي في تنظيم «القاعدة»، من خلال كتاب يحمل عنوان: «الحرب الطويلة: الصراع المحتد بين أمريكا والقاعدة»، وقد تضمن القراءة الاستطلاعية مقتطفات من قراءات سابقة في نفس العمل، وصدرت في عدة منابر إعلامية أمريكية وبريطانية، حيث اعتبرت «النيويورك تايمز» أن بيتر برغن يخرج بشكل جلّي عن الرواية الأمريكية الرسمية في التعامل مع قلاقل «الحرب على الإرهاب»، مادام يستعرض وجهة نظر الآخر، أما قراءة «وال ستريت جورنال» فنوهت بتوقف الكاتب عند معالم الفشل الأمريكي في الحرب المفتوحة على لائحة من الاحتمالات، ويوجد النموذج العراقي - أو «سراب الأكاذيب» بتعبير برغن - على رأس لائحة الفشل الأمريكي؛ أما جاسون بيرك (الإعلامي والخبير البريطاني في الإرهاب)، فيرى في قراءة له نشرت ب-»الأوبسرفر» بأن المعطيات الخاصة بتنظيم القاعدة تبقى أكثر أهمية، ومنها اختزال بيتر برغن لاعتداءات نيويورك وواشنطن على أنها كانت «خطأ استراتيجيا»، أو استنتاج آخر لا يقل أهمية مفاده أن تأثير تنظيم «القاعدة» على باقي الحركات الإسلامية، كان أقل تواضعا مما تُروج بعض المتابعات الإعلامية، في الوطن العربي والعالم الغربي.
«ألبير كامو: قصة حب»، عنوان كتاب مثير يخلص مؤلفه إلى وجود العديد من القواسم المشتركة بينه وبين الروائي البريطاني الشهير جورج أورويل، أقلها أنهما توفيا في سن 46 سنة، وسقطا معا ضحية مرض السل، كما انخراطا في مسالك المقاومة، والمرور الإيديولوجي الموازي على النزعة اليسارية المتشددة («الاشتراكية الثورية» عند أورويل والشيوعية عند كامو).
من الكتب الطريفة التي توقف عندها العدد البانورامي، قراءة في مسار مفكر ألماني اعتُبِرت قصته من أغرب ما حفلت به الثقافة الأوروبية الحديثة، وحديثنا عن الفيلسوف كارل كريستيان فردريش كراوس، أو المفكر الذي كان «نكرة» في بلده الأصلي (ألمانيا)، وأصبح بعد وفاته، رمزا ثقافيا خارج وطنه (في إسبانيا تحديدا)، إلى درجة أنه يُعتبر أحد أبرز المفكرين المؤثرين في ظهور النزعة الليبرالية في إسبانيا الحالية!
على عادة الأقلام الألمانية في إثارة الزوابع الفكرية وأحيانا المعرفية - وألمانيا بالمناسبة، تعتبر بلد الفلاسفة بامتياز - تضمن العدد قراءة سريعة في كتاب أسال بعض المداد عند أهل التأريخ في القارة العجوز، (صدر في العام الماضي 2010) عندما زعم مؤلفه، الباحث الألماني والمستشرق رالف إيلغر، أن الرحالة العربي ابن بطوطة، لم يقم أصلا بتلك الرحلات التي اشتهر بها لدى الخاصة والعامة، وأن مُجمل ما حرره في كتابه المرجعي «تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» لم يعدو أن يكون «هلوسات روج لها لدى العامة، مستغلا الجهل والأمية السائدة آنذاك»، واختتم ناقد الكتاب رؤى رالف إيلغر بكونها مجرد حبكة روائية.
رقم واحد فقط، يختزل مضمون العرض المطول الخاص بكتاب «الجمال المتخيل.. تاريخ الصناعة العالمية للتجميل» (2010) لمؤلفه جوفري جونز من هارفارد: 300 مليار دولار، هو رقم حجم المبيعات العالمية السنوية بمواد التجميل، على أن السؤال المؤرق والهام في الكتاب، يبقى قطعا مُغيبا في الحملات الإشهارية بهذه المواد: لماذا ينفق مستهلكو مواد التجميل كل هذه الأموال الطائلة على مواد للتجميل، وهم يعلمون جيدا أن الثمن الحقيقي لتلك المواد أضعف بكثير من الثمن الذي تُباع به؟
وضمن لائحة الحوارات التي يعج بها العدد، نطلع على لقاء مع براين مايرز، الخبير الأمريكي في شؤون كوريا الشمالية، وتم تمهيد الحوار عبر التعريف بكتاب المحاوَر («عرق الأنقياء، كيف يرى الكوريون الشماليون أنفسهم»، 2010)، وقد تكون كبرى خلاصات الحوار المطول، أن الكوريون الجنوبيون، وبخلاف ما جرى مع تجربة الوحدة الألمانية، غير مستعدين اليوم للتضحية من أجل إنقاذ ساكنة كوريا الشمالية عبر مشروع وحدة كورية، مرددين شعارا دالا: «نعم للوحدة الكورية، ولكن ليس الآن».
تضمن ملف العدد المخصص للرأسمالية أربعة مواد (موزعة على 21 صفحة)، وكالعادة، جاء التمهيد لمجمل هذه المواد بالتوقف عند كتب مؤطرة وبالضرورة مرجعية في التعامل مع الرأسمالية، وهكذا نقرأ المواد التالية:
- مبحثا جامعا حول تنبؤات آدم سميث في موضوع الرأسمالية (ويكاد يكون المبحث الأهم في الملف، ومؤسس على عرض نقدي أنجزته «النيويوركر» في كتاب «آدم سميث..حياة متنورة» لمؤلفه الاسكتلندي نيكولا فيليبسون)؛
- مقالا عن حدود التوسع الرأسمالي الذي يحلم به صناع القرار في الغرب، والمناقض لشعار/حُلم «الدرجة الصفر من التنمية»، والمؤسس على شعار منطقي لا يريد المستهلك الأمريكي استيعابه، يفيد أن النموذج الاستهلاكي الأمريكي يصطدم بحدود بيو - فيزيائية، أو كما أصبح مُسلما به لدى أغلب نشاء البيئة في المعمور، أو بتعبير أفصح، من المستحيل عولمة النموذج الأمريكي في الاستهلاك.
- صرخة الثروات الطبيعية ضد عقلية الاستنزاف الرأسمالية، من خلال حوار قيم للغاية مع برنارد ماريس، اقتصادي وروائي، ومؤلف كتاب «آه يا ماركس، لم تركتنا» (2010)، وكتاب آخر لا يقل أهمية، (ألفه بالاشتراك مع جيل دوطالير) يحمل عنوان: «الرأسمالية أو نبض الموت» (2009)، ولا تخرج أطروحات الاقتصادي والروائي عما يُحذر منه نشطاء البيئة في العالم بأسره: المغامرة الرأسمالية ستصطدم لا محالة بندرة الثروات الطبيعية، وكون إنسان اليوم أصبح مهددا بعاملين اثنين: الموت من فرط عبادته للمال، والموت من فرط انغماسه في التقنية، وما يهددنا اليوم، ليس نهاية العمل، وإنما العمل بلا نهاية.
- وأخيرا، قراءة في التوسع «الرأسمالي» الجديد في نسخته الصينية، ولعل ما يلخص المبحث المخصص للنمر الرأسمالي الصيني الصاعد، هذه الإحصاءات الغنية عن التعليق: لأول مرة، تتجاوز مبيعات «جنرال موتوز» من السيارات في الصين مبيعاتها في الولايات المتحدة، كما أن التنين الصيني يتحكم اليوم في شركتين من كبريات شركات النفط في العالم، وضمن الأبناك الأربعة الأولى في العالم، اثنان تتحكمان فيهما الصين.
نخصص خاتمة هذا العرض مع موضوع «متحف أخطاء مكتبة غوغل»، وهو عنوان إحدى أهم الدراسات التي جاءت في العدد، وتتوقف عند جملة من الأخطاء العلمية الفادحة التي يجدها متصفح مكتبة «غوغل» على شبكة الإنترنت، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، إحصاء ما لا يقل عن 500 كتاب يتحدث عن شبكة الإنترنت، مؤرخة في الإصدار قبل 1950 (عام الخطوات الأولى للشبكة العنكبوتية)، أو وجود 29 إحالة على اسم باراك أوباما قبل.. 1812، أي قبل ميلاد أجداد أجداد أوباما، وغيرها من الأخطاء المثيرة التي برأي محرر المقال، تساهم في ارتفاع ضغط الدم لدى الباحثين في الجامعات.
-