يبذلُ المثقَّفون (والمثقفون المعتبرون تحديداً) جهداً كبيراً وكبيراً أيضاً؛ لإصلاح وضع المثقّف، من خلال إعادة النظر في مكوِّناته، وقراءة المشكلات التي تكتنف علاقاته بالسلطة والمجتمع من ناحية، وبأنماط الزمن من ثانية، وبالمكان وقيمته من ثالثة...، ومهما قلّ مردودُ هذا الجهد فإنه جديرٌ بالاحتفاء والتقدير.
لكنْ يتعيّن علينا - من زاويةٍ أخرى- أنْ نتأكّدَ من تحقّق العائد من الجهد الذي نبذله في هذا السياق، وإلا فإنّ توفيرَ الجهد والطاقة لمشاريع مضمونة خيرٌ من إرسالهما في استصلاح وضع المثقّف العربي دون عائد يقارب ما نؤمِّله.
إنني أؤمن إيماناً تاماً بمقولة علماء الاجتماع (الطفولة مهد الشخصية)؛ لذلك لا أرى أنّ هناك طائلاً من وراء إصلاح مثقفين أحاط بهم الكِبَرُ واشتعلت رؤوسُهُم شيباً، فهم إمّا أنْ يرفضوا هذا الإصلاحَ ويتعالوا عليه فنخسرَ جهدَنا والزمنَ أيضاً، وإما أن يصلحوا بعد أمد طويل؛ ثم يدركهم الموتُ دون أن ينالَنا شيءٌ من صلاحهم.
الحلُّ -إذن- في ترك المثقف والاشتغال على قنوات الثقافة، في تجاوز عملية ترميم الوجوه القبيحة إلى بناء مثقفين جدد أكثر ارتباطاً بالزمن، ولن يتأتى هذا ما لم نتوجه جميعاً إلى أوعية الثقافة وقنواتها بالنقد والغربلة والإصلاح؛ مستحضرين في أذهاننا الآتي:
- أنّ هذه القنوات مستمرّةٌ في الزمن؛ لأنها لا تهرم ولا تموت، ونفعها مستمر ما استمرت الحياة، أو ما استمرّت حياتنا -في أسوأ الأحوال-.
- أنها المسؤولةُ عن إنجاب المثقّف من جهة، وإعطاء الثقافة معناها من جهة أخرى، وما من شك في أنّ تباين الثقافات بين المثقف العربي والمثقف الأمريكي والأوروبي، أو بين مثقفي المشرق العربي ومثقفي المغرب، ناتجٌ في الأصل عن المسافة الكبيرة التي تفصل بين قنوات الثقافة هنا ونظائرها هناك.
- أن أغلب هذه الأوعية مندرجٌ تحت مظلة مؤسّسية؛ لذلك يمكن أن نحيط بها أكثر من إمكانية إحاطتنا بالذوات، التي تخضع لظروفٍ نفسيةٍ وفكريةٍ غير محدّدة.
نحن إذن أمام محاولات لإصلاح المثقف قد تفضي إلى الفشل، ومحاولات أخرى لإصلاح القنوات الثقافية من المؤكد أنّها ستفضي بنا إلى نجاح -وإن كانت عملية إصلاحها تتطلب الكثير من الجهد والعطاء-.
إنّ ساحاتنا الثقافية مليئة بالأمراض المستعصية، ويُخيّل إليّ أحياناً أنّ علاجها يكمن في استئصالها لولا أنّ استئصالها هو الموت نفسه.
ما الحلُّ -يا سادة- في ساحةٍ ثقافيةٍ مترعةٍ بالعنصرية العِرْقيّة والإقليمية؟ غارقةٍ إلى أذنيها في بحر المصالح المادية أو المعنوية؟ مجلِّلة بمشكلات لا حدّ لها كالازدواجية، وتسطيح القضايا، والشخصنة، والتكتّل الفكري الذي يشبه القَبَليّة، وملاحقة الأضواء، والصعود على أكتاف الرموز، وترويج المنجز الإبداعي أو النقدي أو الفكري بالكذب والحيل المخالفة لقوانين الوعي والثقافة؟!!
كيف السبيل إلى إصلاح مثقف لم يتسلّح بالحوارية في عصر الحوارية؟ ولا بما يكفي من العلم والمعرفة في زمن تسبق فيه المعرفة نفسها؟ وكيف يمكن التعاطي مع مثقفين يمتلكون وجوهاً كثيرة، يخلعون ويرتدون؛ بناء على ما تقتضيه مصالحهم، وما يكفل لهم البقاء في الساحة حتى لو كانوا خشباً مسنّدة؟ وكيف نثق في مثقفين تقودهم الجماهير، وتستتبعهم بيسر الدوائرُ الخارجةُ على قانون الحياة؟ وأي صلاح نرجوه منهم وقد شوّهوا المهنية الصحفية، وقضوا -إلا قليلاً- على مبدأ التكاملية وهو مكوِّن رئيس للحضارات والثقافات كلِّها؟!!
سؤال تنسلّ منه أسئلة لا حدّ لها، تفضي بنا إجاباتها إلى صعوبة بالغة في التعاطي مع وسطٍ كهذا، لا يقوِّمه علاجٌ قصير، ولا يستقيم لعلاجٍ طويل.
معاناتنا الكبيرة تكمن في فساد القنوات الثقافية، المسؤولة عن إنجاب المثقف، وصناعة الثقافة، وأخصُّ منها -على سبيل التمثيل- ما يأتي:
القناة التعليمية: فهي قناة القنوات كلِّها، وهي المسؤولة عن وضع الخطوط العريضة لعقلية الطفل، وإشكالية هذه الخطوط أنها نافذة ونامية أيضاً؛ ومن يتتبّع السير الذاتية للمثقفين يجد نتوءاً بارزاً لطفولتهم على سطح الخطاب، لا يفتأ يؤثِّر في اختياراتهم وخطاباتهم.
إن المثقف قبل أن يكون مثقفا كان طالباً في مدرسة صغيرة، فتح عينيه على فنائها فوجد اصطفافاً عنصرياً بين الطلبة، لا يتورّع بعضُ المعلّمين من دعمه بشكل بارز أو مستتر، وحين تلفّت رأى فساداً كبيراً في إدارة الفصل والأنشطة الخارجية، يحصل فيها أقاربُ المعلمين على امتيازات لا يحصل عليها هو ومن لفّ لفّه، وحين تحرّك وجد عقبات لا حدّ لها تعيق حركته، بمبادئ ظاهرها طيب وباطنها خبيث.
القناة الإعلامية: فمن يتابعْ الحِراك الإعلامي يجده يهدم الوعي الثقافي أكثر مما يبنيه، ففي الإعلام وجد المثقّفُ صورةً أخرى للاصطفاف الذي وجده في التعليم إبّأن الطفولة، لكنه هذه المرة على المستوى الفكري وليس على مستويات المنطقة أو الإقليم أو القبيلة أو اللون، وعلى المثقف إن هو أراد دخولَ حلبة الإعلام أن يركب هذه الموجة، فيلتحق بهذا المعسكر أو ذاك؛ ليبرز صوته وتتضحَ ملامح وجهه، وإلا ظلّ غريباً كصالحٍ في ثمود، بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
لست مبالغاً إذا قلت إن هذه القناة كانت وما زالت سبباً من أسباب فساد المثقف وانتكاسة الثقافة، فالاستكتاب في الصحافة - مثلاً - يخضع لمعايير كثيرة ليس من أهمِّها المعرفة، والعلاقات الشخصية كفيلة بأن تمنح كاتباً من هواء عموداً صحفياً يكتب فيه أكثر من تسعة عشر عاماً، وحتى حين تتنازل عنه هذه الصحيفة تتخطفه تلك؛ لعلاقة تربطه برئيس تحريرها، تشهد عليها دكّة الاستراحة!!
الإثارة - مهما كانت مجانية - تكفي لصناعة كاتب في صحافتنا، والجرأة - مهما كانت وقحة - تكفي لجعله الكاتب القنبلة، الذي يفجّر كل شيء من حوله، ويبقى وحده مركزاً للحياة.
الأندية الأدبية: قناة ثالثة تحتاج إلى مراجعة ومعالجة، فبعض القائمين على مجالس الأندية ليسوا من صنّاع الثقافة وإن كانوا مثقفين، وبعضهم لا حضور له فكيف يصنع الحضور ؟ وهي ما تزال رهينة المحبسين: الأسماء المحدودة والاتجاه المحدود، وملتقياتها تمدّنا بغير قليل من التسطيح الذي يسميه المتفائلون بحثاً علمياً.
الأندية الأدبية تستثمر المثقف الجاهز، ولا تصنع مثقفاً، لذلك ستظلّ رهينة مستوى جاهز، ونمطٍ معين من الثقافة، وأنا متأكّد من أن الانتخابات ستزيد الطين بلة، وستجعل بعضَ الأندية الأدبية ملتقى لقبيلة معينة أو اتجاه فكري محدّد!!
هذه أمثلة سريعة للقنوات الثقافية التي تبحث عن موقع لها في خريطة الإصلاح الجديدة، وما من شكّ في أنّ عملية إصلاحها ستسهم في إنجاح عمليات الإصلاح التي نشهدها في سياقات فرعية كثيرة.
Alrafai16@hotmail.com
الرياض