يبدو أن اختصار محنة ابن رشد وما نال فكره من نفي في انقلاب السلطة عليه واستبدالها النقمة بالمودة، والإبعاد بالتقريب، والحبس بالحرية، وخصوصاً وأن مدى هذا الانقلاب الذي ضاق فيه سلطان دولة الموحدين بابن رشد كان قصيراً في مدته ومحصوراً في أواخر سنوات حياة ابن رشد، لن يبلغ بحقيقة المحنة وصورتها الكلية مداها. وذلك لأن محنة ابن رشد الحقيقية هي في تهميش فكره وعزل منهجه العقلاني عن مدار الحياة في العالم الإسلامي منذ وفاته وإلى زماننا هذا. والمسألة أكثر وضوحاً إذا نظرنا إليها من الجانب المقابل وهو ما صنعته أوروبا التي لم يمر أكثر من خمسين عاماً على وفاته حتى تَرْجَمَتْ معظم كتبه، واستقبلت تربتها الثقافية والاجتماعية بذور أفكاره الفلسفية في وجهتها العقلانية الواقعية التي تفاعلت وأسهمت في تأسيس نهضتها التي أخرجتها من ظلمات العصور الوسطى ومن هيمنة الكنيسة والإقطاع وتجبُّرهما.
والسؤال الذي يبدو ملحاً هنا، هو لماذا نُفي ابن رشد إلى أوروبا؟ لماذا لم تثمر فلسفته وعقلانيته عربياً وإسلامياً؟ وهذا هو سؤال النهضة العربية الإسلامية بإحدى صيغه الفرعية. فالنهضة من حيث هي وعي بالتخلف ورغبة في تجاوزه، لم تتولد إلا بالقياس إلى الغرب، أو أوروبا، وفي بعض الصيغ العالم. وما زال السؤال الذي تداوله النهضويون بمختلف اتجاهاتهم منذ أواخر القرن التاسع عشر يحمل في بحثه عن طريق النهضة سؤال العلة للتخلف الإسلامي في معرض التقرير له في قبالة التقدم. ومعنى ذلك أن النهضة في الوعي العربي الإسلامي المعاصر تحمل ضمنياً تزكية لابن رشد من خلال الإدراك لمعنى التقدم ونسبة أوروبا إليه، بقدر ما تحمل من النقد للتاريخ العربي الإسلامي الذي لم يتفاعل مع عقلانية ابن رشد ولم ينتج النهضة.
وعلى رغم ذلك، فإن من الباحثين من يُحمِّل ابن رشد نفسه مسؤولية إخفاق السياق العربي الإسلامي في عدم التفاعل معه. ومن أولئك زكي نجيب محمود الذي خص ابن رشد بإحدى مقالات كتابه (قيم من التراث) تحت عنوان: «ابن رشد في تيار الفكر العربي» وفي هذه المقالة يقول: «كان ابن رشد أقل إقناعاً من خصومه أمام الفكر الإسلامي، وبالتالي لم يترك بعده أثراً يؤثِّر في دنيا المسلمين، يتكافأ مع الأثر الذي تركه هؤلاء الخصوم –والغزالي منهم بصفة خاصة- فلم يكن عجيباً أن تقل شهرته بينهم عما كان ينبغي لها أن تكون». ثم يذهب إلى تشخيص مدار الضعف عند ابن رشد في موقعه من تيار الفكر العربي الإسلامي، فيرى أنه كان أكثر اهتماماً بقواعد المنهج، منه بالتطبيق على فحوى المشكلات نفسها. وأنه في إقامته لدليلَيْ العناية والاختراع قد صادر على المطلوب، إذ أيد الشريعة بالشريعة. وأنه كان ينتقد المتكلمين بأنهم يستخدمون الأدلة الجدلية لا ما يطالبهم به من الأدلة البرهانية، وهو نفسه في نقده هذا أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان.
وكلام زكي نجيب محمود، هنا، ينقض بعضه بعضاً، فهل كانت –مثلاً- غلبة الغزالي متأتية، كما هو مقتضى المقابلة الضمنية، من تلافي ما أخفق فيه ابن رشد؟ ألم يكن الغزالي جدلياً؟ وكان يؤيد الشريعة بالشريعة لا بالحكمة، فيصادر هو الآخر على المطلوب؟ وأين اهتمام الغزالي المنهجي والتطبيقي بالبرهان؟ إن الاهتمام النظري بقواعد المنهج كما برز عند ابن رشد ضرورة يفرضها الفقر النظري المنهجي عربياً، أي الحاجة إلى تأسيس عقلاني برهاني للرؤية المعرفية والعملية، خصوصاً وأن البرهان نظام استدلالي ومعرفي مكتف بنفسه. وهي عملية استنفدت من ابن رشد جهداً في فهم أرسطو وأفلاطون وشرحهما وتلخيصهما وتبييئهما في السياق الإسلامي والإضافة عليهما. وقد برز جهد مضاعف في مؤلفاته الفقهية المنهجية من خلال وجهته النقدية التي قوضت دواعي الضدية والمنافاة للبرهان والعقلانية بوصفهما باباً للكفر والخروج من سلطان الشريعة.
لكن ابن رشد أخفق ويخفق دائماً –فيما أتصور- بسبب بؤس السياسة الناتج عن استمرائها توظيف الفكر الديني لمركزة نفوذها، وهو نفوذ مقترن في التاريخ الإسلامي بالشكل السلطوي الذي سماه ابن رشد «وحداني التسلط». هذا البؤس هو مرمى السهام ولب اللباب من جهد ابن رشد الفلسفي والفقهي، وعلاجه هو النتيجة التي يؤدي إليها تأكيد ابن رشد دوماً الفواصل التي تحد المسافة بين أنواع الاستدلال وطرقه الخطابية والشعرية والجدلية والبرهانية، فتصعد بالأخيرة إلى مستوى اليقين وتدرجها في مسمى الحكمة، وتصونها عن التداخل مع الاستدلال الجدلي والشعري والخطابي الذي يؤدي إلى تفكك صفتها البرهانية واليقينية في الاستدلال. وأتصور أن أعظم سبب مكن لابن رشد في أوروبا هو الوعي بمؤدى فلسفته من هذه الزاوية التي تخلِّص المجتمع من تقارن جحيم الإقطاع مع جبروت الكنيسة، وهو وعي تضافر فيه حضور ابن رشد مع تبلور اجتماعي واقتصادي باتجاه التثمين للحرية والفردية، بحيث لم يعد الفكر هنا متعالياً على الواقع على نحو يفضي إلى القطيعة بينهما.
نعم، لقد انتصر الفكر المقابل لفكر ابن رشد في الواقع العربي الإسلامي، الفكر الذي يقوم على الاستدلال الجدلي والخطابي والشعري، أو يقوم على التلفيق أو التوفيق مع الاستدلال البرهاني، بما من شأنه أن يفقد البرهان خاصيته الاستدلالية بوصفه نظاماً عقلانياً مكتفياً بنفسه. ولقد كانت صفة التوفيق والتلفيق للبرهان مع غيره من طرق الاستدلال بارزةً عند الغزالي، فكان –عند محمد عابد الجابري- يجسم لحظة الأزمة في الثقافة العربية الإسلامية، ويشير الجابري باللحظة تحديداً إلى تداخل الأنظمة المعرفية التي حللها الجابري لبنية العقل العربي –كما سماه- البيان والعرفان والبرهان. ويبدو لي أن اهتداء الجابري إلى لحظة الغزالي تلك متولد عن وصف ابن رشد في (فصل المقال) للغزالي ضمن حديثه عن تأويلات الأقوال الشرعية حيث يرد قوله: «فأما إذا أُثْبِتَتْ (أي التأويلات) في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد، فخطأ على الشرع وعلى الحكمة. وإن كان الرجل إنما قصد خيراً: وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن كثَّر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم. وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما. ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه. والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبا من المذاهب في كتبه: بل هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف».
وإذا كان ابن رشد قد تقصّد دحض المنهجية الملفقة والملبسة والمتقلبة، عند الغزالي أكثر من غيره من الفقهاء والكلاميين، فإنه يؤشر على مرمى هدفه الفكري، كاشفاً عنه في مبلغ الأثر الذي تصنعه تلك المنهجية، بقدر ما تنصنع به، في نفوس العوام، وفي الوظيفة السياسية التي اندرج الغزالي في خدمتها، بحيث أصبحت كتبه كما وصفها ابن طفيل «بحسب مخاطبته للجمهور». وقد أشار ابن رشد إلى ذلك في (تهافت التهافت) معللاً تقلب الغزالي بالمداراة للعامة، وقائلاً: «كبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب (تهافت الفلاسفة) ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه». وربما كانت هذه المداراة التي أنتجت تقلب الغزالي المتلاحق رغماً عنه، هي ما أوقع الغزالي في أزمته الروحية، التي أسفرت عن انسحابه من مجتمعه، والعزلة في قناعة بالنظام المعرفي للتصوف. ولكن ضدها تماماً في حالة ابن رشد، أي عدم التقلب بحسب ما تبتغيه العامة، هو مظهر بارز في نكبته، فمن بين الأسباب التي ترد في نكبة ابن رشد ما يورده عبد الرحمن بدوي في (موسوعة الفلسفة) من أن السلطان أبو يوسف يعقوب بطش به «ابتغاء ترضِّي الفقهاء والعامة في ذلك الوقت، لأسباب سياسية، وكان ذلك في وقت اشتد فيه الصراع بينه وبين الأسبان النصارى».
وقد لا نلتفت كثيراً لترضِّي السلطان للفقهاء والعامة في البطش بابن رشد، لأن الأسباب التي يوردها المؤرخون لنكبة ابن رشد متعددة، ويحمل بعضها صفة مباشرة وضاغطة باتجاه التحييد لغيرها أو تهميشه. لكن الوعي بفكر ابن رشد الفلسفي والشرعي يحتم علينا أن نأخذ هذا السبب بمزيد تأمل وتفهم، فالبرهان الذي هو مدار الحكمة ونسيج تكوينها، يحيل على العقل الذي يصفه ابن رشد بأنه قوة مشتركة للبشر جميعاً وإن تفاوتت قلة أو كثرة. وهو المعنى نفسه الذي يعبر عنه ديكارت في قوله الشهير: «العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين البشر» أو الذي يلزم عن المدركات الضرورية عند الماوردي وغيره من القدامى. وهذا التشارك البشري في العقل، أو تعلقه بما ندركه ضرورة، حين نأخذه في ضوء فصل ابن رشد المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، أعني تقريره توافقهما لا تعارضهما، يفضي إلى ما فهمته الرشدية اللاتينية من خلاص الناس من ربقة رجال الدين، وضرورة اندحار الحكومات الثيوقراطية.
وهذا هو مؤدى تحريم ابن رشد إفشاء التأويلات الدينية التي يمارسها علماء الشريعة، إلى العامة. وهو يشرح نتائج هذه التأويلات في (فصل المقال) قائلاً: «فمن قِبَل التأويلات، والظن بأنها مما يجب أن يُصَرَّح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام حتى كفّر بعضها بعضاً... فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق». فلا تأويل من التأويلات لا ينتج وظيفة سياسية، خصوصاً إذا تذكرنا أن التأويل –كما وصفه ابن رشد- موضوع اجتهاد لا إجماع، وهنا رأسمال الفقه وعلم الكلام من الوجهة السياسية.
لكن هذا يقودنا إلى تأمل وجوه من عقلانية ابن رشد لا تنفك في أثرها ومنظورها، عما تبناه ابن رشد من رؤية في العلاقة بين الدين والسياسة، على مستوى المعرفة وعلى مستوى المجتمع، أعني وجوه التجدد والحرية والاختلاف والثراء المعرفي. فعقلانية ابن رشد تقوم على تصور المعرفة من حيث هي مؤدى لوظيفة العقل في استخلاص ال معاني الكلية من المحسوسات أو الجزئيات، والعقل –كما ينص في (تهافت التهافت)- «ليس شيئاً أكثر من الصور المجردة من المادة» لكن خلافاً لثبات المُثُل الأفلاطونية فإن تجدد المعرفة وتغيرها –عند ابن رشد- متأت من تغير وتجدد هذه المحسوسات أو الجزئيات. ولهذا يغدو العقل عنده منهجاً لا مذهباً، وتتنافى فلسفته مع أي صورة نهائية ومغلقة ومذهبية، فأفراد الجنس البشري على مر العصور يتشاركون في إغناء المعرفة وتطويرها.
ويسود في عقلانية ابن رشد مبدأ السببية الذي أنكره –مثلاً- الغزالي، ويعني هذا المبدأ رد كل شيء في الوجود إلى أسباب تدرَك بالعقل. وفي رده على الغزالي بهذا الشأن، نقرأ قوله: «والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل». ونتج عن هذه السببية تفسيره للحرية الإنسانية، وللاختلاف بين البشر: «فمن المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجودٍ موجود فعل يخصه لم تكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئاً واحداً». وبناء على هذه الهوية الذاتية للموجودات والعلاقة السببية بينها يفسر ابن رشد الحرية الإنسانية موضوعياً، فالفعل الإنساني مشروط بعلاقة السببية بين القوانين التي سنها الله تعالى للكون، ومنها القوانين داخل الإنسان وخارجه، ولهذا فإن الفعل الإنساني –عند ابن رشد- يجمع بين الجبر والاختيار. وكما يرد لديه في (مناهج الأدلة) فإن «النظام المحدود الذي في الأسباب الداخلة والخارجة، هو القضاء والقدر الذي كتبه الله لعباده». وهكذا يقوم في عقلانية ابن رشد تسليم واضح بتأثير الإنسان في حوادث العالم مبني على تقريره الخصائص الضرورية لكل شيء.
الرياض