انتفضي أيتها القصائد العظيمة.. الجديدة.. وثوري على من استهلكوا أسماءك المعتّقة حتى بات الكلّ يلوكها ويزعم أنه (شاعر)، ثم يتمادى ويزعم أن (القصائد) قد فات أوانها.!
أقولُ ما سأقوله وأنا على يقين أنّ عدداً من مدّعي القصيدة والشعر سيزداد في قلوبهم ذلك الشيء الغبيّ الذي لا أفهمه تجاه كلّ كلام عن الشعر الحقيقيّ والشعراء الحقيقيين، وسأقولُ ما أقوله من أجل القيمة الخالدة حين تكون وثيقة يستحضرها كلّ مطالع في شأن الشعر بعين الحقيقة المتوارية -للأسف- خلف كثرة العوالق والعوائق وال...
أقولُ: ككل كائن معاصر، تعرضتُ في الأيام القليلة الماضية لأزمة قلبية نُقلتُ على إثرها إلى العناية المركزة للقلب في مجمع الملك سعود الطبي بالرياض، وهناك كانت الفحوصات توجب إجراء عملية جراحية لا يمكن إجراؤها إلاّ في مدينة الملك فهد الطبية، وقد تم التخاطب الرسميّ بين الجهتين الصحيتين وجاءت الموافقة وصار لا بد من نقلي -بسيارة الإسعاف-! إلى حيث المكان المهيأ لإجراء العملية الجراحية اللازمة للقلب..
قلتُ أقولُ: وقبل تجهُّزي ولملمة أغراضي الصغيرة من أجل مغادرة سرير العناية المركزة إلى الإسعاف وصولاً إلى المقرّ الذي سأنوَّم فيه بضعة أيام أخرى استعداداً للعملية، رنّ هاتفي الجوال وكان المتصل صديقي الشاعر إلياس لحود، من لبنان، يسألني: هل قرأتَ قصيدتي الجديدة؟ قلتُ: لا! قال: لا بدّ أن تقرأها الآن.. لم يسألني صديقي عن حالي، ولم أخبره عن وضعي الصحّي، إنما فقط طرأ ببالي أن أعرف منه مطلع قصيدته التي يريدني أن أقرأها حالاً، فقال بصوته الإنشاديّ:
(شجَرُ الْعِشقِ والْمصابيحِ يزفرُ ضِلْعاً فضِلْعاً
ويشتدُّ في التربةِ النبْضُ إنْ عانقَتْها رِئهْ
وإنْ عانقَ الجِذْعَ طفلٌ تناهَتْ إليهِ الْعروقُ الْوَصايا
مرَّةً قيلَ للحنْظَليِّ اعْجِنِ الرّمْلَ واخبزْهُ صدْرَ امْرأهْ
قال خبزٌ وماءٌ غفيرٌ ولكنّني مُغْرَمٌ بارتشافِ الشّفاء
كدْتُ أُقْري العواصمَ.....)
طبعاً أنا أعرف أسلوب إلياس لحود وطريقته الشعرية، فهو حين يبدأ قصيدته بما يشبه الإيضاح الإخباريّ فإنني سأتوقع منه عملاً كبيراً يستحق الخروج من المستشفى لقراءته!
وطبعاً كنتُ أنا وأخصّ المقربين من أهلي إليّ، قد أتممنا (صلاة الاستخارة) سائلين الله تعالى اسمه وجلّت قدرته أن يقرر في أمر قلبي، فإن كانت الجراحة خيراً له فلتكن، وإن كان بقاء الحال على ما هو عليه أكثر خيراً فسأرفض الانتقال وسأخرج إلى البيت رغم نصائح الأطباء وتحذيراتهم – المخيفة جداً!
وكأنما كان اتصال إلياس ومطلع قصيدته الجديدة المعنونة (حوارية الإمتاع والمؤانسة) بمثابة الطوق الذي تشبثتُ به مبتعداً عن إتمام العملية التي يحتاجها قلبي، مفضلاً قراءة بقية القصيدة كعلاج -مجازيّ أو مزاجيّ- أثق بجدواه ثقتي بالشعر العظيم..
وهكذا كان إصراري على الخروج متعهّداً بالكتابة على أوراق رسمية إلزامية كثيرة، بخط يدي وتوقيعي وبصْمَتي على أنني أتحمّل مسؤولية قرار الخروج من المستشفى ورفض العملية الجراحية وأنا (بكامل قواي العقلية)!
ثم على موقع جريدة السفير الإلكتروني قرأتُ القصيدة التي احتلت صفحة كاملة من صفحات الجريدة، في ملحقها الثقافيّ الجمعة -قبل الماضية- لأجد فيها شيئاً من أجوبتي على شكل أشياء من أسئلة:
(كيف أُقنعُكُمْ أن صدْري وسِيعٌ
وباخِرَتي مُهْرةٌ
وكلَّ الكلامِ الذي اندَلقَ الآن جمرٌ فصيحٌ؟
أنا صوتُكمْ أيّها الفُقَهاءُ:
يدِي بَلْدةٌ واحْتراقي طريقْ..)
ثم أكملُ القراءة:
(وبكَيْنا معاً.. وعندَ الْحدودِ افترَقْنا
أنا أحملُ الجسْمَ في حفنتيْنِ وأمشي
وهُنَّ يُلَوِّحْنَ لي بالسكاكينِ حتى تفجّرتُ عبر القممْ:
أتسمعُنا؟
قلتُ: أسمعُكُنَّ وأعلو وأهبطُ في العُرْيِ، هلْ وطنٌ مثلُ جِسْمي؟
وهل مثلُ عُرْيي عَلمْ؟؟
شجَرُ العِشقِ يزفرُ ضلعاً فضِلْعاً
وطني وأنا ماشِيان
تعِبْنا سُدىً واتّفَقْنا معاً
أنا أحْمِلُهُ مرّةً وهْوَ يَحْمِلني مرّةً
وعندَ المسيرِ اختلَفْنا ولكنّنا حين جُعْنا معاً
تناهتْ لنا جوْقةٌ من أقاصي الترابِ،
تُوَلْوِلُ:
أنْتَ ستحملُهُ أوَّلاً.
وقَرْفَصْتُ سَمْعاً وطاعهْ..)!
غير أنني لم (أقرفص سمعاً وطاعة!) بل اتخذتُ قراري بهذا الخروج لاستكمال ما تبقى لي من الحياة بمنأى عن مباضع الجراحة، وبالتحام كامل مع الشعر الذي أؤمن به وبالحلول الكامنة فيه، والذي لا يعرف كنهها إلاّ من كان به مسٌّ من جنون الشعراء..!
قلتُ ما قلتُ معتزاً بما اقترفتُ وأنا لستُ مدركاً خطأه من صوابه، ولكنها (شهادة) على نفسي -وعلى الشعر الآسر لنفسي- أحببتُ توثيقها قبل فوات الأوان..
وقبل الختام: أحمد الله وأشكره أن قدّر لنا -نحن السعوديين- من المراكز والمدن الطبية ما يكفل العلاج الطبيّ بكافة أشكاله الدوائية والجراحية، لعامة المواطنين وخاصتهم، حتى بات الخيار لمثلي أن تكون (العملية الجراحية) هي الشيء المجانيّ الطبيعيّ المتاح، بينما رفضُها هو الاستثناء الذي يستوجب التعهد والإقرار بتحمّل المسؤولية إن جاءت العواقب وخيمة – لا قدر الله.
والطريف من هذا كله، أن صديقي اللبناني (الشاعر الكبير إلياس لحود) هو الذي بحاجة ماسّة إلى عملية جراحية يتمنى أن يتمكن من إجرائها، ولكنّ تكلفتها المادية الباهظة تجعله يؤجّل وينتظر، بينما أنا أجد الفرصة متاحة أمامي لإجراء عملية -بالمجّان- أصعب وأخطر وأكثر كلفة من عمليته فأرفضها من أجل قراءة قصيدته!
عموماً، هي إرادة الله سبحانه وليس لنا سوى الحمد والتأمّل والاعتبار..
ولأن الشكر حقٌّ لمن يستحقه وواجبٌ على من يتعيّن عليه، لا يسعني بعد هذه التجربة الحادّة إلاّ أن أشكر الدولة والظروف، بشكل عام، وأشكر بشكل خاص الطبيب رأفت النجار والأستاذ إبراهيم الزغيبي على محاولاتهما المخلصة المستميتة من أجل إقناعي بضرورة استكمال العلاج والموافقة على إجراء الجراحة المناسبة؛ وأستغفر الله إن كنتُ أذنبتُ بإصراري على الرفض والخروج من أجل قراءة قصيدة!
ffnff69@hotmail.com
الرياض