الواقع:
ليس معيبا القول بأن المشهد الثقافي السعودي قد عاش ردحا من الزمن في حالة من الركود وبطء الحركة، جراء تشتت انتماءه المؤسسي فيما سبق، وهو ما أثر على نمو وتيرة العمل الثقافي بصورة احترافية، وجعل الشأن الثقافي مقتصرا على جوانب محددة من المعرفة، سواء في شقها الديني أو الإنساني، مما خفف من حضورها الوجداني وبالتالي الوجودي بين معظم أطياف المجتمع بشكل ملحوظ لفترات عديدة؛ وفي مقابل ذلك فقد أدى هذا التقوقع المعرفي والنمطية في أدوات الخطاب الثقافي على الصعيدين الديني والإنساني، إلى تشكل عديد من أطياف المجتمع ضمن سياقات ثقافية خاصة، وهي الصالونات والمجالس الثقافية الأهلية، التي ضمنت إلى حد ما لمتداوليها تحقيق ما يحتاجونه من معرفة متجددة أكثر انفتاحا وأكثر توسعا مقارنة بالمجالس الثقافية الرسمية، التي حصرت نفسها في نطاق الإطار الأدبي على مستوى المعرفة الإنسانية، أو نطاق الإطار الفقهي الخاص على مستوى المعرفة الدينية.
على أن ذلك قد أخذ بالتبدل تدريجيا مع إنشاء وزارة للثقافة التي اهتمت بمتابعة مختلف المناشط الثقافية، وعملت من ثم على احتضان جميع الفعاليات والمؤسسات الثقافية، والأهم أنها قد مثلت المرجعية القانونية والأدبية للمثقف السعودي على مختلف أشكاله وصوره، والمرجعية المباشرة أيضا لتنظيم كثير من الأنشطة الثقافية كالمهرجانات الفنية ومعارض الكتاب إلى غير ذلك من المناشط المتنوعة. ولاشك فقد أخذ المشهد الثقافي السعودي بعد ذلك في التواجد تدريجيا ضمن مسيرة الحراك الثقافي العالمي، عبر تبنيه لقضايا وهموم دولية كالدعوة إلى الحوار مثلا، الذي أصبح هاجسا ثقافيا كبيرا لدى العديد من رموز النخبة العلمية السعودية دينيا ومعرفيا.
كما ومع بداية الألفية الثالثة فقد أخذ المشهد الثقافي السعودي في التفاعل إيجابيا مع حركية النتاج الثقافي العالمي، عبر تبني عديد من أطياف مشهده لثقافة المثاقفة، المعارضة كليا لثقافة الاستبداد الثقافي، التي تهدف إلى مواءمة عملية التغيير والتطوير الثقافي الطارئ على مجتمعنا جراء حميمية التواصل والتفاعل مع السائد الثقافي الإقليمي والدولي بشكل فعال ودون إعمال أي تغيير جذري بصورة سلبية مشوهة على ملامح السائد الثقافي المحلي، بحيث يكون للمتغير الثقافي المعاصر أثره الإيجابي على مجمل الأنماط الثقافية الأصيلة، التي تهدف وفقا لذلك إلى استثمار ما لدى الثقافات الأخرى من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة. وهو ما سيؤدي حتما إلى تنمية روح الثقة والتسامح بين الأفراد والجماعات، إذ أنها ستزيل كثيرا من الأوهام، وستساعد على تفعيل القواسم المشتركة بين مختلف الأطياف، الأمر الذي سيخفف من حدة التوتر وسلبيات العداوة البينية، التي عادة ما يغذيها الجهل بالآخر، والإيمان بما تكوَّن في الذهنية من أحكام سلبية مسبقة.
وبذلك فإن شيوع ثقافة المثاقفة في أي مجتمع بصورته الإيجابية، البعيدة عن ملامح الاقتباس الكلي والاستعارة العمياء لما لدى الآخر الثقافي بشكل مطلق، ستمكننا من إشاعة حالة النماء الثقافي في صورته الإيجابية، ومن إعادة قراءة تراثنا القراءة الواعية القادرة على استشراف المستقبل ومتابعة تحدياته، والأهم قبل وبعد ذلك، هو التمكن على الصعيد الداخلي من تنمية قدرات أجيالنا الثقافية بكل بصيرة وتبصر، وحماية تعدديتنا الخلاقة من أي فعل خارجي يهدف إلى تدميرها، ومن أي خلل يمكن أن يعتريها، فيستثمره الأعداء المتربصون بوحدتنا، الراغبون في إشعال نار الفتنة والفرقة داخل الكيان الواحد.
التحديات
على أننا ونحن جميعا نصبو إلى أن تكون الصورة الحالية لمشهدنا الثقافي بهذا الإشراق الجميل، إلا أن الواقع الثقافي المعاش يعتريه العديد من العوائق الجوهرية، التي يصعب إغفالها أو القفز عليها حين مناقشة طبيعة تطور المشهد الثقافي المحلي مقارنة بغيره من المشاهد الثقافية على مستوى النطاق الإقليمي مثلا، حيث لا زال مشهدنا بوجه عام يعاني من القصور المعرفي والرتابة الفكرية من جهة، وضيق مساحة الحرية، وصغر حيز الحركة التأملي عند عدد متعاطيه من جهة أخرى، حتى أن مشهدنا الثقافي المعاصر على سبيل المثال لا زال محموما بنقاشات ساخنة، قد عفا عليها الدهر في عدد من الدول المجاورة منذ نصف قرن ويزيد.
ولا بد في هذا الإطار من الإشارة الجادة، إلى أن أي مشروع ثقافي جاد متجدد يحتاج لبلوغ غايته من توفر عدد من الشروط الملائمة لذلك، يأتي على رأسها توفر ووضوح الرؤية الإستراتيجية للمشروع الثقافي ذاته، بمعنى أن تكون الأهداف الغائية لحركة التفاعل الثقافي واضحة في ذهن المُشرِّع الثقافي سواء في شكله الرسمي أو الأهلي، وهو ما وضح جليا في العديد من المشاريع الثقافية الإقليمية، وأخص بالذكر منها المشهد الثقافي الكويتي، الذي عمل على خدمة أهدافه الغائية بكل سلاسة فكرية، فكان أن تنامت لديهم وتيرة الحراك الثقافي في مختلف صورها المتنوعة من أدب ومسرح وفنون بصرية وسمعية عبر التفوق السينمائي والتلفزيوني والإذاعي والموسيقي، وانعكست بشكل إيجابي على الصعيد الداخلي عبر تنمية مختلف القدرات الشبابية والإبداعية، وعلى الصعيد الإقليمي والدولي عبر المنافسة البارزة في مختلف المجالات الثقافية المتنوعة؛ وعلى غرارهما أخذت دولة الإمارات العربية المتحدة بوجه عام تخُطُّ طريقها في بناء مشروعها الثقافي الخاص، الذي حقق لها أهدافها الغائية من الانتشار الإعلامي المطلوب، كما هو ملاحظ حاليا في العديد من البرامج الثقافية المتنوعة، التي يعد من أبرزها برنامجي أمير الشعراء وشاعر المليون الجماهيريين.
في الوقت الذي كان بإمكاننا نحن في المملكة العربية السعودية، بما نكتنزه من معرفة ونملكه من تراث فكري وآثاري خالد، أن نقوم بذلك وأن نقود المنطقة والعالم العربي بوجه خاص صوب أفاق ثقافية متجددة، إلا أن غياب الرؤيا ووضوح الأهداف الغائية، قد حجب عنا الكثير من الأعمال الثقافية، وأفشل في جانب وأثر من جانب آخر أيضا على بعض مشاريعنا الإعلامية الثقافية من مجلات ثقافية متخصصة، مقارنة ببعض الإصدارات المماثلة لها في دولة الكويت على سبيل المثال.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن من أثره السلبي أن سيطر على أفاق مشهدنا في فترة ماضية وحتى معالم اللحظة، شكلا محددا من الخطاب الثقافي سواء في إطاره التقليدي أو الحداثي، فكانت الغلبة القسرية في إطاره الديني لرأي واحد فقط، مما أفقد الساحة وسطيتها واعتدالها بوجه عام، وكان محور الفعل الثقافي الحداثي وبخاصة في فترة الثمانينات الميلادي في شكله الغالب، مرتكزا على نموذج المثقف الغربي، فكان أن تقلصت علاقة بعض المثقفين في المشهد المحلي بالحراك الفكري الديني بشكل كبير، وقلص من تتبع الموروث الفكري العقلي الإسلامي الكبير، وهو ما جعلهم يعيشون بمعزل عن ثنايا المشهد الاجتماعي بوجه عام، وأفسح المجال للآخر الديني من كيل التهم لهم، مما أدى إلى توتر الساحة الثقافية، وكان بروز العديد من الألفاظ الإقصائية كالتبديع والتفسيق في الإطار الديني لكل من يخالف توجه الرأي الديني الأحادي السائد، أو يعارض المنهج التقليدي في قراءة الموروث الثقافي، في مقابل اتهام الحداثيين لمن سبق بالتخلف والرجعية والظلامية، وهو ما شل حركية نماء المشهد الثقافي السعودي، وعمل على تقوقع تفاصيله ضمن زوايا محددة من البحث والتداول، لم تكن هي جوهر اهتمام الشارع الثقافي الواسع، الذي تم تغييبه في لب ذلك الصراع، وعمل البعض على استلابه فكريا وإيمانيا خلال تلك الحقبة.
وفي هذا السياق أيضا، فإن نجاح أي مشروع ثقافي يستلزم غياب أو ضعف سلطة ظاهرة التوجه الأيدلوجي، سواء في شقه السياسي أو الديني، ونماء مساحة الحرية بشكل مطلق وفق الضوابط الكلية العامة، حتى يتمكن الفكر والإبداع من التألق بالصورة الصحيحة، وبالتالي ازدهار أفاق وملامح المشهد الثقافي في مختلف المجالات الأنثروبلوجية، والفنون الفلسفية، والأعمال الإبداعية من مسرح ورواية وموسيقى إلى غير ذلك، كما هو الحال مع حركة النهضة الغربية، التي سمحت لعلماء عصر الأنوار، التفكير والتأليف والإبداع بحرية تامة، وكما كان الحال في عصر النهضة الإسلامية خلال القرن الثالث الهجري، حين أصبحت أفاق المدرسة العقلية هي المحرك لزمام الحركة العلمية بما تتميز به من رحابة فكرية تنطلق من ثوابتها الإسلامية الكلية حين مناقشة الموروث بمختلف أشكاله، ودون أن يكون للإحساس بثقافة المؤامرة أي تأثير سلبي على منطلق فعلها من جانب، كما لم تحبس نفسها ضمن أحكام عامة نابعة من رؤية عقل كلي لمجمل المتغيرات الثقافية، بل عملت على مناقشة مختلف تلك المتغيرات بذهنية تفصيلية دقيقة.
وعلى اعتبار أن التوجه الأيدلوجي الديني هو السائد بين أطياف المجتمع فقد كان له التأثير الأكبر على طبيعة حركية وتفاعل المشهد الثقافي المحلي، حيث ونتيجة للطبيعة التقليدية المُشكِّلة لتكوين ذهنية بعض علماء وطلبة العلم في مجتمعنا، المؤمنة باكتنازها لمفاصل الحقيقة الربانية وفق اجتهادها ونظرها، الرافعة نبرة صوتها بشكل حجب عنها سماع غيرها من الأصوات الدينية الأخرى المعتدلة في رأيها الشرعي ومنطلقها الفكري، فقد أدى ذلك إلى ضمور نمو وتيرة الحراك الثقافي بشكل عام، حيث حجب عنا إمكانية تواجد عدد من رموز الحركة الثقافية العربية المعاصرة بحجة خروجهم عن الدين وفق منظورهم، وجعل العديد من مؤيدي الحركة الثقافية التنويرية يُحجمُون عن إبداء كثير من أرائهم خشية الوقوع في شرَك المحاكمات الفكرية من قبل سلطة الولي الوصي بحسب تعبير الدكتور معجب الزهراني. والأدهى والأمر حين يمارس هذه الولاية والوصاية الفكرية أشخاص محدودي العلم والمعرفة الشرعية، لمجرد أنهم قد ألمُّوا ببعض أبجديات العلم الشرعي، أو سمعوا قولا عاما من عالم شرعي يحتمل الكثير من التفصيل، فحملوه على وجه واحد، هو الذي تناسب مع فهمهم وقصدوا تطبيقه.
وفي المقابل فقد كان من جراء غياب التوجه الأيدلوجي الديني في عدد من بلدان الخليج العربي، أن أصبحت مناطقهم قبلة للكثير من رموز حركة النهضة العربية منذ مرحلة مبكرة، وساهم ذلك في تدفق الكثير من الكتب الفكرية، والمجلات الأدبية والعلمية، وتطور مختلف الجوانب الثقافية والفعاليات الفنية المصاحبة من مسرح وفنون متنوعة. وفي مقابل هذه الحركة الدءوبة المفعمة بالحرية المنضبطة في كامل حركتها، فقد تشجع العديد من الأدباء والمثقفين في عدد من أقطار الخليج العربي على تأسيس مؤسساتهم المعرفية الأهلية، التي كان لها الدور الكبير في تنشيط عملية الحراك الثقافي، على حين أننا لازلنا نعاني من صعوبة هذا الأمر ضمن أنظمة وزارة الثقافة والإعلام، التي لم تُشرِّع حتى الوقت الراهن قانونا واضحا يفسح المجال لتأسيس العديد من المؤسسات والدور الثقافية، التي حتما سيكون لها أكبر الأثر على نمو وتيرة الحراك الثقافي ضمن إطار مجتمعنا، كما سيعزز ذلك من رسوخ ما نصبو إليه من قيام مجتمع مدني حضاري، بديل عما نعيشه من سمات المجتمع الأبوي، يعيش فيه الإنسان بكامل حريته وفق ما هو معتمد من أنظمة وقوانين، ويساهم فيه الفرد في عملية البناء والتنمية المطلوبين لولوج عوالم الألفية الثالثة بكل قوة واقتدار.
كما لا يمكن لأي متابع أن يُغفل أثر الرقابة الإعلامية السلبي على نمو وتيرة الحراك الثقافي ضمن إطار المجتمع السعودي، حيث لا يخفى على الكثير مقدار حجم الضرر الفكري والمعنوي بل وحتى السلوكي جراء فرض وزارة الإعلام للعديد من القيود حين إصدار أو فسح عدد من الكتب الفكرية والثقافية، في الوقت الذي أصبح أبناؤنا وبناتنا يعيشون حالة انفتاح مهولة عبر فضاءات الشبكة العنكبوتية، ومسارات الأقمار الصناعية، وقبل ذلك وبعده، فقد أصبح كثير منهم جراء ابتعاثهم الدراسي للخارج، على تماس مباشر مع المتغير الثقافي والفكري بكل تجلياته، ودون وصاية أو رقيب. الأمر الذي يفرض على كل مهتم مسكون مشتغل بالثقافة ضمن أجواء مشهدنا المحلي، إعادة رؤيته الفكرية بشكل متجدد، حتى نتمكن من مواكبة ما نعيشه من حراك، وتكون لنا القدرة على التفاعل معه بإيجابية، للحاق ومن ثم تصدر المشهد الثقافي الإقليمي على أقل تقدير.
* كاتب وباحث في الشؤون الفكرية
- جدة