لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ
إِبَرَاً يَضِيقُ بِهَا فِنَاءُ المنزِلِ
وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَعِيرُكَ إِبْرَةً
لِيَخِيطَ قُدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!
خامساً: (ليخيط قُدَّ قميصه): ويختم الشاعر هذا المشهد -الذي يمثل كما قلنا (قمة الحاجة) التي وصل إليها صاحبنا المسكين يوسف- بهذه الجملة التي يكشف فيها الشاعر عن السبب الذي دعا يوسف هذا إلى المجيء إلى قصر هذا البخيل ابن يوسف، وهو السبب نفسه الذي جعله يستعير منه إبرة واحدة، إذن فهو -ومن خلال هذا التركيب الأخير- يريد أن يخيط قُدَّ قميصه الذي تمزَّق، وإذا نظرنا إلى هذا التركيب مستصحبين جميع ما مرَّ من أوصاف ومشاهد فإننا نخرج بالدلالات التالية التي سأذكرها بإيجاز:
أ- قمة الحاجة التي وصل إليها يوسف، فهو يريد استعارة إبرةٍ لشيءٍ ضروريٍّ وليس ترفاً، وهو خياطة ما تمزق من قميصه، وهل هناك ما هو أشدُّ ضرورةً من ذلك؟
ب- ثم إنَّ هذا الأمر -وهو خياطة قد القميص- أمرٌ عاجلٌ لا يحتمل التأخير ولا التأجيل؛ لأنه لو لم يفعل ذلك عاجلاً لم يستطع الخروج من بيته بسبب هذا القُدّ، وبالتالي ستتعطل كثيرٌ من مصالحه التي كانت ربما سبباً في إبقائه على قيد الحياة.
ج- وهذا يوحي لنا بأمرٍ آخر يزيد في تصوير الفقر الشديد الذي يئِنُّ منه يوسف ويعاني بسببه، وهو أنه ليس لديه إلا قميصٌ واحد، وهو هذا القميص الذي يرتديه الآن، وقد تمزَّق وأتى اليوم طالباً إبرةً كي يخيطه؛ إذ لو كان لديه غيره من القمصان الصالحة للبس لاستغنى عن هذا القميص الممزق، ووفَّر على نفسه الإقدام على طرق باب هذا البخيل وطلب منه استعارة إبرة للخياطة.
د- ثم إنَّ إسناد الفعل (يخيط) إلى يوسف نفسه يزيد من تصوير حاجته الشديدة؛ إذ إنه هو الذي سيقوم بخياطة هذا القميص بنفسه، ولن يذهب به إلى أحد آخر ليخيطه له؛ فهو لا يملك ثمناً لهذه الخدمات.
هـ- ومن الملاحظات التي يجب أن يدركها القارئ هنا أنَّ هذا الغرض الذي يريد يوسف استعارة الإبرة من أجله -وهو خياطة قُدِّ قميصه- من الأمور التي لا تستغرق في العادة وقتاً طويلاً، فالأمر كُلُّهُ -كما توحي لفظة (قُدّ)- خياطة جزءٍ يسيرٍ من القميص قد تَمزَّق، وبالتالي فإنَّ يوسف لن يتأخر إطلاقاً في إعادة هذه الإبرة إلى صاحبها.
و- ثم لاحظ أيها المتأمل أنَّ ما يطلبه هذا المسكين يوسف هو إبرة واحدة، وحين يشرع في تقديم هذا الطلب والتماس هذا الرجاء فإنَّ المطلوب منه وهو صاحب هذا القصر المنيف سيكون أمامه عند بابه، وكنا قد علمنا من خلال البيت الأول أنَّ قصر ابن يوسف قد امتلأ بالإبر حتى بلغ فناء المنزل وضاق به، وهذا يعني أنَّ ابن يوسف -وهو يستمع إلى هذا الفقير- سيكون قريباً جداً من هذه الإبر لأنها موجودة في كل مكان إلى الدرجة التي يمكن أن يحصل على واحدة منها بل أكثر من ذلك بمجرد أن يمد يده إلى أي مكان دون أن يتزحزح من مكانه، خصوصاً أنَّ فناء المنزل قد ضاق بها، وهو -أي الفناء- أقرب الأماكن لديه حالة كونه يستمع لطلب هذا الفقير عند مدخل بابه، وبالتالي فإنه لم يتبق أي عذر لرفض طلبه فيما لو حدث ذلك.
ز- أضف إلى هذا أنه في حال رَفَضَ هذا البخيل إعارة الإبرة إلى هذا المسكين الفقير فإنَّ هذا يعني أنه -في أفضل الأحوال- سيسير بين الناس بثوب ممزق مقدود، ولك أن تتخيل شعورك وأنت ترى إنساناً يسير أمامك ممزق الثياب، وكيف يشعر وهو يرى نظرات الناس له، فكيف إذا كان ذلك الإنسان شيخا كبيرا عاجزا، وابنه من أغنى الأغنياء؟.
ح- ثم لا تنس أنَّ هذا الرجل المسكين الذي تمزق ثوبه وأتى يريد استعارة إبرة واحدة فقط كي يخيطه ليس بأي رجل، بل إنه والد ذلك البخيل المقتر، أجل والده الذي كان سبباً بعد الله في وجوده على هذه البسيطة، وقد أتى اليوم تقوده الحاجة ويجره العوز إلى قصر ابنه الذي بلغ القمة في الاكتفاء طالباً منه استعارة إبرة واحدة ليخيط هذا القد المرسوم على قميصه الوحيد، فإذا كنا قد علمنا أن هذا البخيل ابن يوسف قد بلغ قمة العقوق حين لم يسأل عن والده ولم يهتم بحاله حتى وصل إلى هذه الحال، إذا كنا قد علمنا هذا فإننا ندرك الآن أنه أمام فرصة لا تعوض لكي يكفر -ولو قليلا- عن بعض هذا العقوق بإجابة طلب والده البسيط ويسمح له باستعارة إبرة واحدة لخياطة قميصه.
ط- كنا قد علمنا أن يوسف هذا -كما يحتمل أن يكون والد هذا البخيل- فإنه يحتمل كذلك أن يكون المقصود به يوسف عليه السلام، وهنا تكون المصيبة أدهى والوقع أعظم والصورة أشد إرباكاً والمشهد أكثر إثارة، يتضح ذلك من استحضار العصمة لهذا النبي الكريم والقدسية التي تشع بحضورها كما ألمحت إلى ذلك في موضع آخر، ولك أن تتخيل -مجرد تخيل- وقوف نبي كريم أمام بابك يطلب منك عوناً ومساعدة بغض النظر عن نوعها ومستوى صعوبة تحقيقها، وبغض النظر كذلك عن الحالة المادية والاقتصادية التي تعيشها.
أضف إلى ذلك الخصوصية في اختيار هذا النبي الكريم بالتحديد، ذلك أنَّ من يعرف قصة يوسف عليه السلام -ولا أخال أنَّ أحداً يجهلها- ويتتبع تفاصيلها يدرك أنه في ذلك المشهد من القصة -وهو مشهد قد القميص- كان الأمر قد بلغ الغاية في التعقيد، والقصة قد وصلت إلى قمة الأزمة.
ذلك أننا نستطيع تقسيم قصة يوسف عليه السلام إلى ثلاثة أحداث رئيسة: إلقاؤه في الجب، ومحنته مع امرأة العزيز، ومن ثمَّ توليه خزائن الأرض وقدوم إخوته إليه، وقصته مع امرأة العزيز التي صوَّرها القرآن تتوسط هذه الأحداث، وتمثل نقطة تحول في القصة التي بلغت في هذا المشهد تحديدا منتهى الارتباك وقمة التعقيد، لأنَّ يوسف عليه السلام بعد ذلك أُدخل السجن وأخذت القصة حينها مساراً آخر، ومن هنا يتبين أنَّ يوسف عليه السلام في حادثته مع امرأة العزيز كان في أشد صور المعاناة وأدهى مشاهد المآسي، وكان بحاجة ماسة شديدة -في ذلك المشهد تحديدا- إلى العون والمساعدة، ولذا فالمتأمل في حال يوسف عليه السلام ويعرف معاناته حين قُدَّ قميصه يستشعر شدة حاجته وهو يطلب استعارة هذه الإبرة الوحيدة من هذا البخيل الشحيح ليخيط ما تمزق من قميصه وهو في حالةٍ يُرثى لها.
Omar1401@gmail.com
- الرياض