يقول آلان تورين: ما ينسحب على المجتمع ينسحب على الفرد. يجب أن تكون تربيته تنظيماً يحرره من الرؤية الضيقة، اللاعقلانية، التي تفرضها عليه أسرته وأهواؤه الخاصة، وتفتحه على المعرفة العقلانية وعلى المشاركة في مجتمع ينظم فعل العقل. يتعين على المدرسة أن تكون مجال قطيعة مع الوسط الأصلي، وانفتاحاً على التقدم، عن طريق المعرفة وفي نفس الوقت بواسطة المساهمة في مجتمع مؤسس على مبادئ عقلية. إن المدرس ليس مربياً يتدخل في الحياة الخاصة للأطفال الذين لا يمكنهم أن يكونوا إلا تلاميذ، إنه وسيط بينهم وبين القيم الكونية للحقيقة وللخير وللجمال.
فهل نسعى في ظل أزماتنا الحالية إلى العقلنة، وإلى الانفتاح المعرفي، ونسبة الحوادث إلى أسبابها، وإعطاء الأمور حجمها الطبيعي، أم نبقى في شطحاتنا البهلوانية بين الأرض والسماء؟
فيما تناقلته الأنباء من تعليقات لبعض المهووسين بتلك الشطحات قرأت مقولات تصف إصابة ياسر الحبيب بالسرطان أنه عقاب له من الرب لشتمه أم المؤمنين، وأنه سرطان في اللسان، إلى غير ذلك من التفصيلات التي تشي بالانزلاق في متاهة الخرافة.
وقد استدعت تلك الشطحات أمامي ما كان فيبر قد حدد به الحداثة، من أنها تعمل على تحطيم قران ووحدة السماء والأرض؛ الأمر الذي يخيب الأمل في العالم، ويجرده من الجاذبية، لكنه ينسف من جهة أخرى الكوسمولوجيا العقلانية أيضاً، ويضع بالفعل نهاية لسيادة العقل الموضوعي. فهل قضت الحداثة – في الأقل – على مسارب تلك السراديب التي تنمو فيها طحالب وكائنات طفيلية، تسد الطريق في النهاية أمام مسالك المياه النقية؟ وهل تخلصت الأمم من تلك الكوابيس التي تجعل طريق العقل فيها محفوفاً بالمخاطر؟
لا أظن شيئاً من ذلك قد حدث في شرقنا النقي من الحداثة، التي لا يظهر أثرها في الفكر، حتى وإن تظاهرنا باحترامها، وبتفهمنا للقيم الكونية، ولتراكم الخبرات البشرية من مختلف ثقافات الأمم وأديانها، ولو تمنطقنا بسبل حوار في الداخل والخارج لا تنتهي إلا إلى مقولات على الشفاه؛ يخالفها سلوك ومواقف، تقلب لب العاقل حيران.
نعم، نكرس تلك الشطحات باتهام الأقدار أنها تسير وفق ما نضع من ضوابط للأحداث، ومن مصائر للأشخاص، إذا خالفوا شيئاً مما نعده من المسلمات. ففيما يروي المعدّ الشهير لهيئة الإذاعة البريطانية روبرت وينستون، أن الأنثروبولوجي البريطاني إيفانز بريتشارد كان يشتغل على بحث في قرية سودانية؛ وفجأة سقط جدار خشبي لمخزن يستخدم للحبوب، ومات بسببه شخص من أفراد القبيلة. وقد فرح الباحث كثيراً بهذه الحادثة المؤسفة، ليستخدمها في بحثه مؤكداً فرضياته التي كانت تحتاج على إثبات بشأن دور الدين في المجتمعات التقليدية. فالقرويون كانوا يعرفون بعد أن فحصوا الأخشاب التي بني بها جدار ذلك المخزن، أن السوسة قد نخرتها؛ لكن البشر – بشكل عام – غير سعداء لمثل ذلك النوع من التفسيرات. فهذا النوع من التقارير يضعنا بشكل عشوائي أمام احتمال حدوث أشياء حسنة أو سيئة لنا في أي وقت؛ وهو الأمر الذي لا يمكن احتماله. أما عندما تكون الأسئلة تنحصر في سبب انهيار ذلك الجدار، وفي هذا الوقت بالذات، وعلى هذا الشخص بعينه؛ فإن القضية عند تلك القبيلة التي درسها إيفانز بريتشارد ليست محددة بهذه العناصر الحسية، بل يوجد عدد من الطقوس والاعتقادات التي تصنع المسببات، وتحررهم من المسؤولية. فوجود أفكار القوى الفوقية التي يُفسر بها ما يحدث يكون مريحاً للمجتمعات التي لا تراعي منطق الأشياء، ولا تحسب احتمالات الوقائع قبل حدوثها (والبقية في الأسبوع القادم).
164-
* الرياض