اليوم، في العالم الأول خمسون دولة وأكثر تصل لذروة التجربة الإنسانية المدنية وهي لم تعرف من الدين شيئا، ونحن إذ نكرر في كل مراحلنا التاريخية المتخلفة عن عصرها بأن تخلفنا هو في البعد عن الدين، فإننا نبطن قولاً فاسداً بأن الله تعالى هو السبب في تخلفنا لأننا ابتعدنا عن دينه، إننا نضعف موقف الدين حين نضعه بميزان الدنيا، فنحن نرمي مصائبنا وتخلفنا إذا ما ادعينا أننا لم نقترب منه ما يكفي ليرزقنا حضارة الآخرين وتمدنهم، إننا نرفض العدالة إذ نجح الآخرون ولم ننجح نحن، «وقد قال العلماء: إن الله جلّ شأنه ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة».
ثمة فهم خاطئ للدين متأصل في أذهاننا، إننا نعتبره عائلة وأباً ومصدراً للرزق، وليس حلا أن نستمر في الاشتغال على فهم صحيح للدين، بل الحل في أن ننشغل لنشتغل على الدنيا، الدين بجوهره الإيماني لا يحكم فرداً بآخر، والإيمان لا يعرف إلا قلب صاحبه، فلماذا نصرف صكوكاً إيمانية على بعضنا وعلى أحوالنا، على أموالنا وفنوننا، أقلامنا وأفعالنا، على أزيائنا وعلى حزننا وفرحنا، لماذا نعيش وهم الدولة الدينية؟ متى ندرك أن الدولة مجرد مفهوم لغوي فكري اخترعه الإنسان لينظم حدود المجتمعات التي يعيشها، فكيف نريد للفكرة ديناً وللمفهوم معتقداً، لماذا نتصور أن الدولة إنسان بقلب وعقل يؤمن أو يكفر يعتقد بالله أو يلحد بوجوده؟، لماذا لا نفهم أن الدولة منتج بشري محض، إنها الدولة نظام يحكم الناس تماما كما هي الفيزياء نظام يحكم حركة الكون ومن فيه، فهل ثمة فيزياء إسلامية!! أو علمانية مثلا!!
لماذا نعتقد أن مجموع الناس يساوي إنساناً ما، فنعتقد بوجود مجتمع إسلامي لأن الأفراد الذين يتكون منهم هذا المجتمع مسلمون، لماذا نعامل المجموع كفرد واحد له ميلاد وموت أو كفرد له جسد وغرائز؟ لماذا نحسب دون وعي وفهم كافي أن المجتمع إنسان يتعبد الله إذا أقفل المحلات وقت الصلاة أو يأثم إذا ما فتح نادياً ليلياً، متى نكف عن معاملة المجتمع كشخص مسلم نستتيبه ونتهمه بالردة متى ما خالفنا فهمنا! لماذا نشخصن المجتمع ونسميه وننسبه لقبيلة أرضية أو سماوية! لماذا نصطف زرافات خوفا من أن نفترق، لماذا نخاف أن ينصرف كل فرد منا لتجربته الإنسانية الخاصة دون أن نتدخل في شؤونه، لماذا نرفض دعوة الله بأن (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، لماذا نضرب بعضنا البعض باسم المعروف وننسى أن الله خلقنا فرادى ويميتنا فرادى ويبعثنا فرادى. متى نتوقف عن خلافة الأنبياء ونسعى لخلافة الله كما في النص القرآني (إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وحدهم الأنبياء حملهم الله دعوة المجتمعات الإنسانية لأن الأنبياء يعرفون الناس جماعة ويدعونهم جماعة. و الله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان فردا كما خلقه فردا، ولهذا لا يأمرنا الله بخلافة أنبيائه بل بخلافته، فلماذا يريد بعضنا أن يبعث اليوم وصياً بالحسبة على المجتمع يفتي في الناس ويزكيهم، يطهرهم ويقيمهم، يدعوهم إلى ما يفهم ويرغب وينهاهم عما يجهله ولا يريده، خلق الله الإنسان ليعمر الأرض ويخلفه فيها لا ليعطل مسيرتها حين يدعي المعرفة وهو الذي لم ولن يعلم إلا قليلاً، فلماذا يدعي بعضنا أنه يعرف ماذا يجب للمرأة أن تلبس من الألوان فيلعنها إذا خطت أصفر أو أحمر على عباءتها، لماذا يتجرأ مدّعو الوصاية بيننا فيرتسمون ذائقة خاصة في الملبس والهوى والكلام، لماذا نتعدى على أمر الله في الخلافة الدنيوية فنقيم العاقبة فيها ونحكم بين الناس بالجنة والنار والزلفى.. لا وراثة في النبوة، إلاّ للعلماء وفق نص الحديث الشريف، وشخصنة الدولة والمجتمع وتجسيدهما في صورة إنسان واحد ليس إلا جهلا وقصورا معرفيا، والفزع من مفاهيم الدولة المختلفة مدنية علمانية وغيرها من علوم السياسية هو فوبيا جاهلة لا تقيم فرقاً بين الدين والتدين ولا بين النبي والنبوة ولا بين الإنسان والمجتمع ولا بين الأرض والسماء، إنه الدين.. دعوة الأنبياء لكنه ليس إرث المتدينين.
-
lamia.swm@gmail.com
* الرياض