المجد هو العنوان.. وللمجد كل عنوان.. إنه الإنسان بشموخه.. وعطائه.. وتاريخه الذي لا يكذب أهله.. وشاعرنا الشماسي أعطانا ديواناً يزخر بالصفحات.. وبالعناوين.. لن أستبق الحكم له أو عليه.. وإنما من خلال استقراء مضامينه وما توحي به وتشير إليه من معان تندرج تحت شعار ديوانه الكبير.
قدّم لديوانه بأبيات ثلاثة:
أي جدوى في الشعر حين عناده
والقوافي أزمّة في طراده
أي جدوى والشعر يختلس الشا
عر نبضاً من فكره وفؤاده
تترامى النجوم بين يديه
فإذا هن أحرف من مداده
مدخل يومي لنا جميعاً بالثقة.. ماذا بعد؟! ولأن المواد أداة شعر جاءت نجواه للقلم..
طاف بي راكباً على صهوة الحر
ف جموحاً يختال في عنفوانه
ومدى أفقه الرحيب خيال
سابح والجمال قيد عنانه
والى شأوه البعيد اشرأبت
فكر شُرّد بسحر بيانه..
يستطيب الرؤى الجميلة نبعاً
عبقرياً ينساب في ألحانه
ونحن بدورنا يا شاعرنا استطبنا أبياتك المعبِّرة عن خلجات نفسك.. وباقتدار تحسد عليه.. كثيرة هي محطات صاحبنا الشعرية لو يسمح المجال التوقف عندها.. سأدع من شعره ما كان مناسبة.. وسأركن إلى ما هو أكثر التصاقاً بالحياة وبالحب. والجمال.. والصور الإنسانية.
«عرائس» مقطوعة ثرة وطويلة سأصطفي منها بعضاً من أبياتها:
انثري يا مباهج الحسن أحلا
م العذارى على بساط العرائس
أطربي الساحرين في محفل العر
س نشاوى من كف أهيف مائس
يسكب الحب في فؤاد ويزجي
بسمة أناس في رحاب النواعس
يأخذه الخيال الرحب في رسم الصورة الجميلة أيما مأخذ بداية بنواعس الطرف. والغيد. والملاح مروراً بهيفاء وقد لفها الشباب رودا وورداً وصولاً إلى الليل وسكنه وسكونه.. وصولاً إلى الغجر وعروس شعره وهي تتهاوى تحت ظل الغدائر.. نهاية برؤى الطبيعة. والرمال السمراء وزوربا الذي يغني حب الظباء الكوانس.
أيها السامرون حب القوافي
شاعر يعشق الهوى لا يمارس
والصبايا الملاح تعلم أني
رغم حبي لها فتى لا يعاكس
كاد شاعرنا أن يقول لنا إنه حب عذري.. لنصدقه..
يأخذنا إلى حبيبته:
أراك عند الغجر نبع السنا
وفي جمال الصبح نبع الجمال
وفي اكتمال البدر لآلاؤه
كأنما حسنك سر الكمال
أرنو إلى الأنجم مستفسراً
إن كان في الأرض لها من مثال
أجابت الأنجم كل الذي
تراه فينا صورة أو خيال
من حبك المعشوق يا شاعرا
فهو السنا نبعاً ولحن الظلال
فينوسة التي يعشقها تتمثّل في كل الأزمنة والمراحل والأوقات فهي مع الفجر في سناه ومع الصبح في جماله ومع البدر في لآلائه.. حتى النجوم لجمالها خجولة.. إنها مجرد خيال أو صورة أمام مشهدها الحي.
«باقة ورد» تتسع دائرة شذاها بمساحة وطن.. إنها أبها البهية.
أبها لك الحب من قلبي ومن خلدي
حملته الشعر لا وشياً من البرد
أبها لك الحب في أبهى متارفة
وشيته بالأماني الغر في بلدي
تمتمته الشوق والاخلاص مرتقدا
فنعم ما نمنمت روحي لكم ويدي
أزجيته بهوى العشاق من وطن
يندى بذكر لكم في الأكرمين ندي
أبيات أربعة مشحونة بمشاعر الحب لمدينة جميلة.. ولأهل جديرين بالثناء.. وإذا كانت أبها لوحة جغرافية حيَّة تنبض بالحركة.. فإن «لوحة» ثانية استوقفتنا جميعاً للتطلع إلى خطوطها القزحية.. وماذا تعني:
يميل به ذات اليمين.. وتارة
لذات يسار لا يمل به الميلا
ويبقى كظل الموج يرقص زورقا
إلى أسفل حينها وحينها إلى أعلى
ويسبح في بحر من الشوق مائج
يرى كل صعب في تموجه سهلا
وكم شرب الماء الزلال وما ارتوت
ترائبه العطشى وقد نهلت نهلا
عن أية لوحة يتحدث شاعرنا الإبداعي الشماسي؟!
مزيج كأطياف الطبيعة ساحر
تراءت به الأطياف مترفة حبلى
يلون أطراف الحياة جمالها
ويضفي فلا ضناً عليها ولا بخلا
كأن بها «فينوس» تسكب حسنها
وتزرع فيها من مفاتنها حقلا
ولو أن «باخوس» استطاع بأمسه
لها سبباً لاستمرأ الصعب والسهلا
يبدو أن شاعرنا استجمع كل ما في قواميس الجمال من مفردات.. وكل ما في مقاييسه من مفاتن وأودعها تلك اللوحة الفريدة التي رسمها بريشته.. وبمداد عشقه..
«خذيني» هل أنها تلك الحسناء الفاتنة التي أحسن رسمها وأجاد خيوطها وخطوطها؟!
خذيني إلى مأواك طاب لي المأوى
بقربك حيث المن عندك والسلوى
خذيني إلى مأواك حسناء فالهوى
على كبدي جرح وفي شفتي شكوى
خذيني ففي قرباك حسناء مطمحي
وفي طرفك المعسول غايتي القصوى
خذيني ولو بعضا من الوقت فالرؤى
جحيم على العشاق في جمره نضوى
يلح عليها أن تأخذه دون أن يسعى إليها ويقترب منها ويخترق حاجز العزلة برجولة المغرم الذي يأبى التوسل والتسوّل.. لعلها الخشية من نار تتلظى في دواخله لا يقدر على إطفائها وحده.. لأن أداة الإطفاء بين يديها:
وإني لأخشى من لظى تشعلينه
وأنت به المكنون والسر والنجوى
أعان الله المغرمين الذين لا مجاديف في قوارب حبهم.
فارس رحلتنا محمد رضي الشماسي بعد الستين.. وبعد تقاعده تطلع إلى مرآة عمره وقد وخط الشيب رأسه.
يا أيها الشاردان العمر والأمل
عودا شباباً فقد أزرى بي الملل
عودا على فرس الأحلام تسرجها
كل الطموحات لا أين ولا كسل
ركبتها من سني العمر جامحة
فما استكانت وما أوهى بها وجل
وما استقرت على بلوى وإن شطحت
بها المعاناة يحدو شأوها زحل
إلى أن يقول:
ودّعتهم بعد ستين وملء فمي
قصائد الحب تزجيها لهم قُبل
ستون ما اطرحت عبئاً كواهلها
وربما ناء من أعبائه الجبل
ستون رحت أواسيها الأسى جذلاً
وهل يواسي الأسى يوم الأسى جذل؟
شهادة ميلاد جديد لك يوم وفائك لمن ودعت.. ويوم أن وقفت صامداً شامخ الهامة تتحدى وهن الشيخوخة وتهوماتها بشجاعة الرجولة وعنفوانها.. هذا المعطاء من الشعر حصاد حياة عشتها وما زلت تعايشها بعقلية الشاب وطموحه.. وقدرته على التكيّف مع متغيِّرات الزمن.. ومراحل العمر.
«اليتيم» له مكانة في وجدان شاعرنا المتجلي:
راءك الصبح لا جفاك الضياء
وعلى مقلتيك يصحو الرجاء
وعلى مسمعيك ينثر الصمت
ويرتد في مداك النداء
إلى أن يقول:
أيها البرعم الندي أراقت
من شعاع السنا لك الأكفاء
نسجت من أشعة الصبح بردا
عبقرياً ديباجتاه الوفاء
وأفاءت به عليك لتبقى
في نعيم مهما استلظى الثواء
شرف باذخ ومجد أثيل
أن يرى في رحابك الأنبياء
فلطاها إلى اليتم انتماء
أي فخر به لطه انتماء؟
أي تاج على رؤوس اليتامى
بالنبيين يشمخ الكبرياء
هذا عن اليتيم.. بقدر مرارته أنه نصيب حياة لكل حي.. لا أحد في هذا الكون إلا وذاق طعم اليتم في مرحلة من مراحل حياته.. اليتم كما نعنيه عناه شوقي حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أماً تخلّت أو أباً مشغولا
هذا هو اليتم.. إنه يتم الأحياء حين ينسون أولادهم.
«بُعد» عنوان جديد لمحطة جديدة في رحلتنا مع شاعرنا الشماسي:
هب لي من القلب بعداً واحداً وكفى
أشتار مالذ من أطيابه وصفا
ودارني في حُمادى ما وهبت إذا
ما كان عمّا حباك الله مختلفا
هب لي من القلب بعداً استريح له
واجتليه مدى بالحسن متصفا
لا أدري لمن يوجه هذه الرغبة.. أحسب أنه عزيز وربما قريب باعدت بينهما الأيام.. أو اشتطت بهما النوى عن قرب.. كان البعاد مطلباً واحداً لا يكفي:
وكم أعاني بقربي منك موجدة
لم أستطع كتم سر دونها فطنا
لا أستطيع وأسرار الهوى وهج
على سرير جفوني إن صحا وغفا
تمر طيفاً وما أحلاك مختطفا
مني المنام وما أحلاك مختطفا
أراك ملء منامي روعة وسني
أراك ملء فؤادي رقة وصفا
يختتم قصيدته بهذا البيت:
عشقتهن صبابات يموج بها
قلبان ما هجرا كأساً بها ارتشفا
أخيراً ثبتت الرؤية.. إنه البعاد الذي لا يقوى على تحمّله لأن القلب مسافر..
«فنجان قهوة» وأخالها مرة.
مرّ بي والقهوة المرة شهد في يديه
شادن يسقي من الدلة لا من مقلتيه
كيف يسقي المر من يحلو الهوى في جانبيه
عجباً يمزج راحا ولظى في راحتيه
ليتها وهو يساقي قد أتت من شفتيه
أكتفي بهذا القدر من فنجان القهوة المر الحلو.. بحثاً عن محطة جديدة نتابعها سوياً مع فارس رحلتنا.
«مراهقة» هي محطتنا الجديدة.. ماذا قال عنها شاعرنا؟
شابت وشاب العنفوان
معها فماذا يرجوان
وخبا اللظى المشبوب في دمها
وإن بقي الدخان
وتململ الوهج الخجول
على منابت أقحوان
وتنمّر العصفور نشوانا
على قفص الهوان
وغدا يغرد صامتاً
وبصمته سحر البيان
بعض ما قاله عن مراهقة أوحت إليه بتداعياتها.. وأفول نجم شبابها الطائش..
ظمئ الربيع بها وعا
ثت في مفاتنها الحسان
أيدي الزمان ويا لهو
ل شكاة ما عبث الزمان
والنرجسية ثورة العـ
شرين حتى في الحسان
أغري. تعرّي. فالهوى
المجنون لا. لا. لن يصان
كذب المجون وأنت تحتـ
ضنين أناً فآن
أو تزعمين لكِ افتتان
كلا. فليس لك افتتان
عمر.. وعود. وشباب.. وعاطفة مجنونة تذوي وتذبل وتموت قبل أوانها في عملية انتحار ذاتي لا رحمة فيه.
أخيراً مع شاعرنا الإبداعي محمد رضي الشماسي في ديوانه «عنوان المجد» عبر رحلة معه أخذتنا إلى مواطن شعره الأصيل. والجميل المعبر بصوره وأخيلته المختلفة.
نقف أخيراً في نهاية المطاف مع «رسالة مملحة إلى المتنبي» لا أدري أكان يعني بها أبا الطيب.. أم يعني نفسه.. لنقرأ سوياً الرسالة.. ونستبين الأمر:
بيت من الشعر عندي لا يضارعه
ما عند غيري وإن جلت منافعه
بيت من الشعر عندي لا يقاس به
بيت من التبر مهما جد صانعه
فلو بنى المتنبي ألف رائعة
من القصور لما عاشت روائعه
ولم يعد يملأ الدنيا ويشغلها
بل راح تنكره حتى مضاجعه
ولم يعد ذلك العملاق من شمخت
له القوافي وزانته مطالعه
وربما عاش بهلولاً تطوحه
ما بين زغب بهاليل شوارعه
وربما كان سقاء كوالده
تبيع ماء محياه مطامعه
وربما كان حلاقاً يروق له
شعر بكفيه تذروه قواطعه
وربما ربما لم يدر فارقة
ما بين شعر وشعر إذ يطالعه
هكذا وبطرافة وخفّة دم ممزوجة بملح لذيذ المطعم افتعل شاعرنا هذه الأبيات لا من أجل المباهاة والمنافسة وإنما في سبيل الدعاية.. لا الادعاء.. وكي لا يأخذنا الشك.. وتساورنا الظنون قال كلمته الحقة عن شاعر العربية الأول أبي الطيب المتنبي:
عفواً أبا الطيب العملاق إن شطحت
بالقول شاردة أو عيب صادعه
فما رميت بسهم في مضاربه
إلا وريش سهامي أنت طابعه
أيا محمد يا نجوى على قلمي
شعري بربك يستطريه سامعه
ومن سيقرؤه وزناً وقافية
وقد أعدت لدى قومي مباضعه
هم يخطبون بنات الشعر غالية
والشعر عندك تغليه بدائعه
كمثل حسناء راود وهي غانية
لا تجلب الحسن إغراء مطالعه
«حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وللطبيعة حسن لا تنازعه»
ويختتمها بهذه الأبيات الرائعة:
قالوا عن الشعر آراء وفلسفة
وغربلوه ولكن أين نافعه
دعوا الغرابيل تروي بنص شاعرها
وليس في نبضه إلا ينابعه
فكم شربنا وما بالكأس من ظمأ
مرّاً يذوب على استحياء ناقعه
وكم شربنا وأبقينا لجيل غد
صبابة الكأس يروي منه جارعه
انتهت الرحلة.. كانت شيِّقة.. شاعرها صاغ لنا من مشاعره ما أمتع وأبدع.. لمحمد رضي الشماسي الشكر كله.
-
* الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 ـ فاكس 2053338