لا زلنا نقطف من حدائق الإبداع النسائي ما يستحق أن يهدى لأعين القراء ومحبي الفنون التشكيلية، ولا زلنا نحرص على أن يكون اختيارنا محققًا للرغبات، ومكتسبًا الإعجاب، ومرضيًا للأذواق.
قبل فترة استعرضنا في هذه الصفحة من المجلة الثقافية علاقة المرأة بالفن التشكيلي، عبر حلقات تحمل عنوان (المرأة في الفن التشكيلي)، ابتداءً من كونها ملهمة للفنانين، وصولاً إلى أبعد مسافة نحو حضور المرأة التشكيلية قبل عصر النهضة، ووجدنا كنوزًا كبيرةً من المبدعات في القرن الثاني عشر، وما بعده. وواصلنا التتبع لطريق هذا الإبداع النسائي، إلى أن وصلنا إلى القرن الواحد والعشرين، هذا القرن الذي حققت فيه المبدعات التشكيليات، ما ينافس الرجل بل تجاوزنه بالفكرة والتقنيات. واليوم نقدم كما عودناكم، في محطاتنا التشكيلية، التي لا يقف أمام الوصول إليها عوائق، أو حدود، ولا يحكمها أقاليم أو مدن أو دول، بقدر ما جعلنا من الإبداع ذاته محطة نتوقف أمامها لنتعرف على أبعادها وتجارب أصاحبها.
ضيفتنا في هذه المحطة، الفنانة التشكيلية العراقية، (صبا حمزة)، فنانة من العراق الشقيق، حاصلة على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة من جامعة بغداد، شاركت في العديد من المعارض مع فنانين عراقيين، أقامت معرضها الأول والثاني في عمان بالأردن، لديها خبرات في التصميم الجرافيكي، عملت رسامة في مجلة عمان الثقافية، مدرسة في قسم الفنون المسرحية بمعهد الفنون الجميلة ببغداد.
ألوان تشكل مصدر جذب
تتسم أعمال الفنانة صبا باستخدام الألوان بتجريد حديث، جعل من لوحاتها مصدر جذب مباشر لزائر أي معرض خاص لها، أو عند مشاركتها بأعمالها في معارض جماعية، في تكويناتها اللونية ما يشعرنا بسهولة التنفيذ، مع امتناع تحقيقها عند المحاولة. تعتمد في إيقاعاتها اللونية، على أبعاد وفلسفة اقتناص الشكل، والإيحاء دون مباشرة، تمنح المشاهد الفرصة للتعامل مع ما يظهر من تلميح أو تلويح لشكل.. ما.. في اللوحة، مع ما كانت تقصده عند التنفيذ. فاللوحة لدى الفنانة صبا حمزة لم تكن تلقائية، أو مجرد تلاعب باللون وتشكيله كيفما يكون، وإنما جاء معتمدًا على أسس أكاديمية، صارمة وقوية، تذوب في عالم من الألوان النشطة، الممتلئة بالحيوية والرشاقة، وكثير من الشفافية، حتى في اللوحات ذات الألوان القاتمة، نجد من خلال زواياها أو ما تسقطه من ضوء، هنا أو هناك، ما يضفي عليها فرحًا وزهوًا وجمالاً.
أطياف حلم تجاوز الواقع
الرموز المنبثقة من ثنايا اللوحة، والمفعمة بالألوان، تحرك فينا الرغبة لأن نطل من بين تعرجاتها وامتداداتها، تجمعها في حيز وتفرقها في آخر، بإيقاع مدروس، يسمعنا أنغامًا مرئيةً بالعين، تتحول إلى سيمفونية لا نشاز فيها، عبر أطياف تتباين تارة، وتتقارب أخرى، تعقد الفنانة من خلالها مصالحة بين المتنافر منها، وتخلق جوًا بين المنسجم، تأخذنا إلى العالم الآخر مع طيف لوني كالحلم، استحضرته التشكيلية صبا من الذاكرة، بحارًا.. وشواطئ.. وجبالاً.. وسهولاً.. وودياناً صغيرة.. وأنهاراً، لا مدى لها، قد لا تكون حقيقة ماثلة، وإنما هي نتاج إيحاء استفز فينا ذاكرتنا البصرية، لنقرب الشبه ونطابق الخيال بالحقيقة، لحظات لا يمكن الانفكاك منها حينما تقع عين المشاهد على لوحاتها، وألوانها، التي تحولت إلى إشارة، توقفنا للتمتع، والبحث.. والتفسير.. والتحليل، وقبل هذا وذاك (الشعور بالدهشة)، أشرعت من خلالها أبواب الدلالات والرموز، وكتبت فيها رسائلها بحروف أودعتها كل لمسة فرشاة، غمستها في ذاكرة الواقع، بفلسفة لونية، لا حدود لها، منحت المشاهد المثقف مفاتيح أسرارها.
تسلل الضوء وخجل العتمة
لا يمكن تحديد مصدر الضوء في لوحات الفنانة صبا حمزة، المتسلل بهدوئه المعتاد ليزيل خجل العتمة، يكسوها، أحيانًا يخرج كإشراقة صباح، وأخرى بألوان شفق يوقض حالات التأمل.
هذه المشاهد الحالمة في لوحات الفنانة صبا، تطرح الكثير من التساؤلات لدى المشاهد، حينما يفيق من غفوة الاستمتاع، بكل ما تحمله من محرضات الإعجاب.. التي تبعث الحياة في اللوحة، وتجعل من ألوانها أحاديث هامسة، تتشكل شعرًا، وتتمثل مشاهد رومانسية عذبة، صنعت بها مراكب في نهر الفن التشكيلي، لتبحر بالوجدان إلى شواطئ هادئة تسمعك نسمات الفصول الأربعة، لا مجال أو قدرة لك على تجزئتها، تحملك على أجنحة فراشات في فضاء رحب.
تخرجنا من هموم أصبحت سجونًا وحصونًا ضاقت بنا، وضقنا بها، نحو بوح لا حدود له. تلك هي رسالة الفنانة صبا كما نراها، وتلك هي حقيقتها، مع سبل تعبيرها اللون والريشة، بنبض يفضي إلى بوابات الحرية البصرية، تبني بها جسورًا نحو الجمهور، تمنحهم من خلالها السعادة والتأمل، زادها المعاني، والعقل بوصلتها في لوحاتها نقاء الرؤية، ورموز تؤلف الزوايا، بإيحاء شاعري، تتحرك ضمن حدود الجمال.
الزمن.. والسطح والروح..
تقول الفنانة صبا في إحدى مقابلاتها الصحفية إن جدلية العلاقة بين الزمن والسطح والروح هي منظومة معقدة، فالزمن هنا هو الفعال في تأثيره.. والروح تشبه السطح، كلاهما لا يستطيع الوقوف أمام منظومة الزمن، وهنا سؤال يطرح نفسه: هل نستطيع ترميم الروح كما نستطيع ترميم السطوح؟؟
1560-
monif@hotmail.com