قد يكون تغييب الصوت العربي والمسلم، ومعه الصوت الإفريقي والآسيوي، أهم عيب منهجي في ثنايا الملف الرصين الذي أتحفت به مجلة «علوم اجتماعية» الفرنسية قراءها في ربوع المجال التداولي الفرنكفوني بشكل عام، والحقل المعرفي بشكل أدق، من خلال عددها الخاص (رقم 13، عدد أيار/ مايو، حزيران/ يونيو 2011)، والمخصص لموضوع تخليق الإنسان الكوني، ولو أنه ثمة التركيز على القلاقل الوجودية التي تهم على الخصوص إنسان الفضاء الغربي (أوروبا وأمريكا)، كما يتبين من خلال لائحة ضيوف العدد الذين تمت استضافتهم وإجراء حوارات مطولة معهم حول لائحة من المواضيع، ويبلغ عددهم 17 مفكرا بالتمام والكمال.
نذكر من ضمن هؤلاء، المفكر الفرنسي إدغار موران، صاحب أطروحة «الفكر المركب» التي جلبت له شهرة كونية واحترام أقلام ثقافات العالم غير الغربي (بدليل زيارته المتكررة للساحة المغربية من أجل إلقاء محاضرات في قضايا العولمة والتخليق)، وقد يكون أهم ما جاء في حواره القيّم، وعلى غرار التحذيرات الواردة في حوارات أخرى نطلع عليها في نفس العدد الخاص، التنبيه من مخاطر النموذج الاستهلاكي العالمي السائد اليوم، والذي برأي موران، يُهدّد الموارد الطبيعية بالفناء، إذا استمرت وتيرة الاستهلاك بالشكل القائم عليه خلال العقود والسنين الأخيرة، ويزعم موران أن إنسان اليوم، يتصرف على غرار تصرف البرابرة، سواء في طبيعة علاقات الشعوب والمجتمعات، أو حتى في علاقات الأفراد الأسرية، مع تصاعد النزعات الفردية والأنانية، وبسبب مثل هذه المواقف، أصبح موران يُصنف خلال السنين الأخيرة، ضمن خانة أنصار البيئة، بالرغم من أنه لا يُعرف نفسها أساسا في هذه الطينة.
المؤرخ والفيلسوف مارسيل غوشيه، كان من بين ضيوف العدد، عبر حوار مُمتع، لا يقل مُتعة عن بعض أعماله، لعل أبرزها كتابه المثير الذي يحمل عنوان: «زوال سحر العالم»، وهو الكتاب الذي يُدقق في مقتضيات زوال المرجعية الدينية في المجتمعات الغربية، والانتصار للمرجعية الحداثية دون سواها، ولذلك اعتبرته المجلة أحد أبرز «نقاد الحداثة»، واعتبر في خاتمة الحوار المطول الذي أجري معه، أن النزعة الفردية التي تُرَوّجها القيم الغربية في العصر الراهن، تعرف انتشارا مدويا في ربوع العالم، مع أنها تخدم مشاريع عولمة أنماط معينة من القيم في العيش والأخلاق، لولا أن الترويج لهذه القيم دون سواها، يُساهم في تغذية مُسببات النزاعات الثقافية المرتبطة تحديدا بالعولمة، وتفسر من وجهة نظره، أحقية حديث المضطهدين والضحايا عن جسامة «الاغتصاب الثقافي» الذي تتعرض لهم هوياتهم، فاتحا النار على بعض القيم الديمقراطية، تلك التي توقفت عندها المجلة في الملخص التركيبي لكتابه المرجعي الذي يحمل عنوان: «الديمقراطية ضد نفسها»، وأهم هذه المؤاخذات، أن الديمقراطية تُؤسس عمليا لنوع من «تقديس الذات»، وعندما يتم تقديس الذات (من قبيل ذات العقل السياسي الغربي)، تتم استباحة أعراض الغير، عبر القفز على أبسط قواعد القانون الدولي، وهذا عين ما نطلع عليه في العديد من الأزمات الكونية السائدة هنا أو هناك.
من الحوارات الهامة التي حفِل بها العدد، ذلك الذي أُجْري مع البروفيسور جان بيير دوبوي، أحد القلاع المعرفية في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، والمتخصص في دراسة فلسفة الكوارث الطبيعية، كما هو جلّي من عناوين بعض مؤلفاته، نذكر منها: «من أجل نزعة كارثية متنورة» (2002)، «الارتباك» (2003)، «ميتافيزيقية صغيرة للتسونامي» (2005)، «العودة إلى تشرنوبيل» (2006)، «في قلب الإعصار» (2009)، ويفتح البروفيسور النار على صناع القرار السياسي في الدول الغربية، في معرض تفاعلهم مع هذه الكوارث، معتبرا أن تبني سياسات الحلول الوسطى (بين عدم شيطنة الكوارث وعدم التفرغ بالكلية لمجابهة المسببات الحقيقية لهذه الكوارث، وخاصة الصناعية)، يُشْبه اللعب بالنار، ويُؤسّس في الواقع لنوع من «الشر النسقي».
حضور الفلسفة الألمانية كان نوعيا في حوارات العدد، ونتوقف نموذجا مع استضافة الفيلسوف أكسل هونيث، مؤلف «أمراض الحرية» (2008)، و»مجتمع الحقد»، (2006) و»النضال من جل الاعتراف»، (2000) ويمكن تلخيص أطروحات الرجل في أهمية الاعتراف المؤسساتي الغربي بباقي الثقافات والأديان في الساحة الغربية، من خلال دعوته الصريحة إلى انتصار العقل الغربي (في شقيه الفلسفي والسياسي) لثلاث مبادئ: مبدأ الحب، ومبدأ لتضامن ومبدأ المساواة.
لا يستقيم الحديث عن تصاعد مطالب النخبة الغربية (الأوروبية نموذجا) بخصوص رد الاعتبار للنزعة الأخلاقية في الممارسة اليومية، دون الإحالة على أعمال اسم نسائي فرنسي أصبح مرجعا في الموضوع، ونتحدث بالطبع عن مونيك كانتو سبيربر، بالصيغة ال تي توجزها لائحة مؤلفاتها المخصصة لموضوع الأخلاق والقيم، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، «أخلاق العالم» (2010)، «فكرة الحرب العادلة» (2010)، «ما الذي يمكن أن تفعله الأخلاقيات؟ في مواجهة الإنسان القادم» (2008)، «هل يجب إنقاذ الليبرالية؟» (2006)، «الخير، الحرب والرعب، من أجل أخلاق عالمية» (2005)، وغيرها من المؤلفات الرصينة، والتي تجعلنا نتحسر عن غياب أسماء نسائية في الساحة العربية، تشتغل على مثل هذه الملفات الكونية الراهنة، على غرار ما تقوم به مونيك كانتو سبيربر، التي يمكن أن نُلَخّص أهم ما جاء في الحوار الذي أجري معها، في التنبيه إلى أن إصرارنا جميعا على تحقيق أقصى الأطماع المادية، يجعل من عالمنا متجها مباشرة نحو الكارثة الجماعية وليس أي شيء آخر، وأن تفادي سيناريو الكارثة، يتطلب الإيمان بتوافق كوني تهم قطاعات الصحة والبيئة والاقتصاد.
نأتي للمفكر الأمريكي مايكل والزر، صاحب أطروحة «الحرب العادلة»، والذي سطع نجمه بشكل كبير مباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن سيئة الذكر، وهو أحد أبرز الموقعين على بيان المثقفين الأمريكيين الشهير الذي بَرّر شن الإدارة الأمريكية الحرب على المسؤولين عن تفجيرات نيويورك وواشنطن، (صدر البيان في شباط (فبراير) 2002 عن «معهد القيم» بولاية نيويورك).
لم تختلف أفكار الرجل كثيرا عن مواقفه سالفة الذكر أثناء صدمة الاعتداءات إياها، مع دعوته هذه المرة، في ملف الفصلية الفرنسية، إلى أهمية «تقاسم المسؤوليات» في معرض التفاعل الأمني والعسكري مع أحداث العالم بأسره، ويقصد بـ»تقاسم المسؤوليات»، فقط مسؤولية «الرجل الغربي»، أي المسؤول الأمريكي والمسؤول الأوروبي، في تكريس فجّ لهيمنة عقلية «المركزية الغربية» على مايكل والزر.
من المفكرين الوازنين الذين نطلع على حوارات معهم في العدد، نجد رينيه جيرار، مفكر فرنسي آخر، اشتهر بالاشتغال على مفهوم جذور العنف في السلوك الإنساني، عبر كتابه المرجعي في هذا الصدد، ويحمل عنوان: «العنف والمقدس»، (صدر عام 1972).
نختتم هذا العرض بالتوقف عند اجتهادات وتحذيرات عالم الاجتماع البريطاني من أصل بولوني زيغمونت باومان، والذي اشتهر بتأليفه «الحب السائل» (2004)، و»الحاضر السائل.. مخاوف مجتمعية وهواجس أمنية» (2007)، ويقصد بوامان بكثرة إحالاته على الحالة السائلة، واقع العلاقات المجتمعية في المجال التداولي الغربي، متوقفا عند الأرقام المرعبة لحالات الطلاق والتفسخ الأسري، ومعتبرا أن الحب يُعتبر أكبر ضحايا «الحداثة السائلة» السائدة منذ عقود في الدول الغربية بشكل عام، ومستنتجا بالتالي، أن التحدي الأكبر المطروح على إنسان اليوم، يكمن في التفاعل الإيجابي والمؤرق مع مقتضيات هذه «الحداثة السائلة».
-