مرت البشرية بمراحل متعددة، وحقب سادت فيها شعوب، وخضعت فيها أخرى لسيطرة المستعمرين الأقوياء. لكن بعض السمات الخاصة بكل شعب كانت مرتبطة في مخيلة الأنثروبولوجيين بتحديد نمط ذلك العرق أو تلك الأمة. بل إن بعض الخصائص حددها الباحثون في مناطق جغرافية معينة، كما أن نسبة قدرات بعينها إلى بعض الأمم دون أخرى، أو إلى سكان نواحٍ من الأرض دون غيرهم، ليست قليلة الحدوث. فهل المسألة علمية أو موضوعية، أم إنها انطباعية، ومبنية على خبرات محددة بأفراد، أو حالات قد لا تكون قابلة للتعميم؟
ارتبطت الأعراق الأوربية، وخاصة اليونان في العصور القديمة، وشمال أوربا في العصور المتأخرة، بسمة «العقلانية». فقد عُرف الأوربيون بالعقلانية في طرق تفكيرهم، وتغلبوا بهذه الصفة على عقبات موروثة كثيرة، بل وتجاوزوا أزمات عرقية ودينية، وأزاحوا طرق تفكير خرافية. وبهذا استطاعوا أن يضعوا مخلفات الحروب الطويلة خلف ظهورهم، حيث أصبحت الشعوب المتحاربة في أزمنة مضت متعاونة، فحققوا رخاء في بلدانهم، ووجهوا جهودهم نحو تنمية بلدانهم، بدلاً من التركيز على الصراعات العرقية والطائفية؛ حتى إن بلداناً صغيرة في وسط القارة الأوربية مثل سويسرا ولوكسمبورج ليست لديها جيوش، وتعيش في أمان ورغد من العيش، بسبب تحضر بيئاتها المجاورة، وعدم وجود الأخطار على الصغير حجماً، أو الضعيف عسكرياً، بأي شكل من الأشكال.
أما في الشرق، فالأمر أغرب كثيراً من العقلانية الغربية وما سبقها. فبالرغم من أن بعض الباحثين في الخصائص الأنثروبولوجية قد ركزوا على أن العقلية الشرقية تهتم بالدرجة الأولى بالمحسوس أكثر من المجرد. وهذا يؤدي إلى عدم تعمقها في الأمور المعنوية لما خلف سلوكياتها اليومية، وعدم استقراء الجزئيات للتوصل إلى البنى الكلية؛ فكثير من مواقف أصحاب هذه العقلية معتمد على استنتاجه اللحظي، وهو ما يشبه رد الفعل على ما يعايشه في الفترة التي يدوم فيها انفعاله (إيجاباً أو سلباً مع المواقف). فهو يبني صداقته أو عداوته على كلمة، أو تأويل لسلوك أحد من كان يتعامل معه، ويؤسس طريقة تفكيره على ما تفرضه عليه مشاعره، وليس عقله الواعي.
تذكرت تلك التحليلات، وأنا أناقش مستثمراً في شؤون السياحة؛ سألته عن عدم وجود العربية في بروشورات تلك النشاطات السياحية التي يتواجد فيها العرب أكثر من بعض الأمم التي يوجد شرح بلغاتهم على تلك التوضيحات. فقال: هل تعرف بأننا فكرنا في الموضوع، فوجدنا بأن عقلية أكثر العرب الذين يأتون إلينا تنفر من وجود العربية في تلك البروشورات، وتقول بأن وجودها دليل على أن المنظمين نصابون. بل فكرنا في وضع أعلام عربية على هذه الفنادق التي يقصدها العرب بكثرة؛ لكننا اكتشفنا أن العربي الذي يجد علماً عربياً لغير بلده على الفندق ينفر منه، ولا بأس عنده ألا يجد أي علم عربي. فقلت: إنها خصوصيتنا الشرقية العجيبة.
وفي تحليل دومينيك أورفوا للشخصية الشرقية – والعربية على وجه الخصوص – أنها تظن أنه بالإمكان الحصول على القوة المادية للخصم دون أن يحدث تأثر بأي صورة من الصور؛ مما أدى إلى الموقف الملتبس: أي المطالبة بالأصالة وبحق التقليد في آن. وهو ما عبر عنه جاك بيرك، عندما قال: إن العرب يريدون ألا يشابهوا الآخرين، وألا يختلفوا عنهم. فلو ذكرت أمامهم خصوصيتهم يشعرون بالمهانة، ويطالبون بأن يكونوا مثل قائل تلك الملاحظة، وإن طبقت عليهم نفس المعايير التي تطبق على الآخرين يجفلون، هذا التوهم بأن التكنولوجيا الغربية قابلة للفصل عن خلفيتها النفسية، وللنقل إلى شرقٍ بقي على حاله، إنما هو ناجم عن رؤية مادية اختزالية للتاريخ.
الرياض