لا شك أن الاشتغال على تجسيد آلية سد الذرائع وإسقاط ذلك على مناطاته المقررة أمر يقتضيه العقل الصريح, والفطرة السوية بطبيعة تكوينها تملي ضرورة استدعاء تلك القاعدة الفقهية القطعية وتجذير حضورها في كل سياقٍ بحسبه، إذ أصل تلك القاعدة لها ما يسندها من النصوص، هذا فضلاً عن الإجماع الذي نقله عدد من العلماء كالقرافي في كتاب (الذخيرةج1ص152) وكتاب (الفروق ج2ص412) والشاطبي في (الموافقات ج5ص185). وأصل تلك القاعدة حاضر وبجلاء في كل الأنظمة والقوانين الدولية والدساتير المتداولة عالمياً مع التباين الطبيعي في مسارات العمل وفي معدلات التوظيف الذرائعي، الأمر الذي يؤكد أن ذلك المعنى من القواسم المشتركة بين أفراد الإنسان، ولا يمنع من ذلك تموضع قدر من الاختلاف في بعض صورها أو في تنزيل بعض أحادها على الواقع أو التباين في آلية إسقاط الحكم, بل حتى من يهاجم وبإفراط قاعدة سد الذرائع, هو يهاجم على المستوى النظري بينما هو وفي حقيقة الأمر وعلى الصعيد العملي يستصحب آلية (سد الذرائع) عن الفكرة التي انبرى للذود عن حياضها ويعمل جاهداً على تفنيد كل ما قد يحدو - بشكل أو بآخر- للتقليل من قيمتها. وهذا يعني أنه يستصحب تلك الآلية الذرائعية ولكن في الاتجاه الآخر المضاد!. التشريع أياً كان لونه سماوياً أو أرضياً يفتح الذرائع حيناً ويسدها حيناً آخر, وهو إذا حظر مفردة مّا, ولها طُرق تفضي إلى حماها وتحدو إلى مواقعتها فإنه يحرم القصد إلى تلك الطرق بوصف ذلك - أي التحريم - مقدمة شرطية لتحريم المحظور، ولو أجاز ذلك لكان ذلك وبالضرورة تناقضاً ونقضاً للحظر المقرر مسبقاً، ولا غرو فتأثيم سلوك مّا يتلوه وبشكل تلقائي التنديد بكل ما ينشئه ويمهد لمُمَاسّته,كما أن شرعنة منشط مّا يقود وبالضرورة إلى تشريع ما يمهد له ويشكل إرهاصاً لمزاولته. بيْد أن من الضروري التأكيد أن الذرائع سداً أو فتحاً يتنازعها طرفان: غال وجاف, مفْرط ومفَرط, يبدو أنهما متضادان, والاختلاف يبدو بينهما وكما لو كان جذرياًً، لكنهما في حقيقة الأمر يقفان على أرضية واحدة، فكلاهما يتقاسمان الإصابة بداء القفز على المنهجية وتوظيف الذرائع – إن سداً أو فتحاً – من منطلق القبْليات الثقافية المسبقة التي يتم التمركز حول ظلالها بلغة محض وجدانية حتى وإن بدت لأول وهلة وكتمظهر صوري منطلقه من وعلى العقل! الذرائع هنا لا يتم التعاطي معها كفاعلية معرفية, بل كآلية رغبوية, ووفقاً لإيحاءات البنية المعرفية التي ينتمي إليها هذا الفرد أو ذاك، ولا غرو, فالالتفاف الحدّي على أو حول فكرة مّا من جهة ودافع التساوق مع الانتماء الحركي من جهة أخرى هو الذي يعلي درجة حضورها بل وعلى نحو يتضخم باستمرار. إن المبالغة في استدعاء قاعدة سد الذرائع والإفراط في توظيفها يفضي إلى إقصاء القاعدة الأخرى التي على الضفة المقابلة، وهي قاعدة (فتح الذرائع) بوصفها الوجه الآخر للعملة التي كثيراً ما يجري اختزالها تعسفاً إلى أحد طرفيها! تجاوز الاعتدال في سد الذرائع يحيلها إلى عبء إضافي ضاغط يكبل الحركة ويوهن الفاعلية ويؤثر سلباً على ديناميكية العطاء ومرونة التفاعل واطراد عملية الإضافة والتجاوز, كما أن المبالغة في فتح الذرائع يقودنا إلى حالة من الانفلات المفضي بالضرورة إلى السقوط في فخ جاذبية الغرائز السفلية التي تمثل الاستجابة لمقتضياتها الخطوة الأولى في طريق الانحدار وانشطار الذات. غير أنه لابد من التأكيد أن فتح الذرائع كذرائع المباح والمندوب ونحوه أحياناً يعد ضرورة معرفية بل وضرورة ملجئة في كثير من التفاصيل الحياتية، إذ يتعذر تدشين اللبنات الأولى إلا بعد أن يُباشر فتح الذريعة وعلى صعيد الوعي في المقام الأول إرهاصاً لتشخيصه على أرض الواقع الذي سيشكّل إبان افتقاره لمثل ذلك الضرب من الإجراء سيشكل عبئاً ضاغطاً ليس بالمقدور تجاوزه بحال، وهذا ما أشار إليه الإمام القرافي مقرراً أن: «الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح» (شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول 449).
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة