النتيجة التي يمكن حسابها للبنيوية، سواء ممن يتفق معها أو يختلف، هي إحداث مفاهيم جديدة تغيرت بها صورة الأدب وصورة الواقع، وتغيرت حقيقة المعنى والممارسة النقدية الأدبية وقيمتهما في الواقع الأدبي. وقادت هذه التغييرات التي فجرتها البنيوية إلى إنطاق جوانب غير مفكر فيها والكشف عنها بما اتصل بما جاوزها إلى ما بعدها في السياق النظري الأدبي والثقافي. فغدت البنيوية، بذلك، جزءاً مما بعدها، ولكنها ليست إياه بالكلية، وهذا هو ما يجعل البنيوية حية ومستمرة بالمعنى الذي يقصد استحالتها وتطورها والتخلي عن بعض مقولاتها وقلْب أخرى، وذلك كله ما لا يمكن الدلالة عليه بإطلاق صفة الموت عليها أو ما يعنيه الموت من انقضائها ونهايتها، على الرغم من أن النظرية فعلاً جاوزتها مثلما جاوزت غيرها، وأصبح التعاطي لجوهر دلالة البنية الثابتة فيها والمنغلقة على ذاتها شيئاً قديماً.
لكن أول دلالة يمكن أن نقرأها في تحول البنيوية تتصل بتحول البنيويين أنفسهم، أعني الذوات الفاعلة للنظرية البنيوية، أمثال رولان بارت وتودوروف وغيرهما. فلم تكن المفاهيم البنيوية لديهم ذات بعد عقدي أو دوغمائي أو إيديولوجي مثلما لم تكن ذات بعد ذاتي، ولو كانت بهذه الصفات لما كان تحولهم سريعاً ولما كان تحولها ممكناً في فترة قصيرة. وهنا تبدو إحدى الآثار الفاعلة في الإطار البنيوي وخصوصاً فيما يتعلق بمفهوم الذات، وهي هنا الذات المنتجة للنظرية، فلم تكن الذات هنا ذاتية بالمعنى الشخصي أو ما يشبهه، فقد فارقت شخصانيتها وفرديتها، وتلاشت مركزيتها بالحسابات النظرية التي تبحث في جوهرانية الأشياء وهويتها وحضورها باستقلال عن علاقاتها التي تسلبها هذه الفرادة والتمركز. ولقد كانت خلخلة المركزية أكبر إنجاز إنساني ثقافي في ما بعد البنيوية، مما لا يسوغ أن نتغاضى عن دور البنيوية في الدلالة عليه وقيادة الفكر النظري إليه.
وبالطبع فقد لا يرتاح الكثيرون إلى ما أحدثته البنيوية من اجتثاث الانطباعية تجاه معاني الجمال الأدبي والسرور والمتعة لأنها عزفت عن أحكام القيمة التي تنهال معبِّرة عن مشاعر القارئ تجاه النصوص الأدبية التي يقرأها. فليس هناك تحليل بنيوي يهتف لمؤلف النص بالثناء أو ينحي عليه باللوم، أو يعبِّر عما أحدثه النص في نفسه من شجى أو سرور ومن انبساط أو انقباض، أو يصفه بجمال أو قبح وبجودة أو رداءة. وقد يتمنى قراء الأدب ومبدعوه على حد سواء أن يبقى للأدب ذلك السر العصي على الكشف، سر الخيالية والذاتية ولغزهما المدهش، وسر اللغة وبناؤها المستحيل، وسر الرؤيا واتساع المعنى، السر العبقري والجمالي الذي يرفع الأدب إلى مرتبة السحر فيكون اتصالاً بعالم الجن أو إلهاماً أو عبقرية مجاوزة لحواس البشر ومن طينة لا تشبه طينتهم. وهذه كلها لدى البنيوية ضرب من التعمية على واقع الأدب الذي أحالته إلى بناء وجاوزت به الأفراد ولم يعد يختلف لديها عن أي نتاج لغوي آخر، فهو موضوع للكشف عن البُنى.
وكان ينتج عن تلك المفاهيم الحافة بالأدب فيما قبل البنيوية، بقدر ما تدلِّل عليه، صفة نخبوية للمتعاطين للأدب. وهي نخبوية الخصوصية الفاهمة مالا يفهمه العامة أو «الدهماء» والمبدعة والخلاقة والراقية في ذوقها وطبعها وإنسانيتها. وكان البدائيون نوعاً ما أقل إنسانية لأنهم بلا تاريخ وبلا عقل. وقد أحبطت البنيوية ذلك، بقدر ما أحبطت امتلاك المعنى من قبل تجربة خاصة أو من قبل إلهام من قوى خارقة، أو ممن يتمتع بـ»الحس السليم». فالحس السليم لم يجعل أفلاطون أو أرسطو يستنكران الرق في أثينا في زمنهما. وقد ذهب تيري إيجلتون إلى ذكر أمثلة تثير العجب من عدم الاستنكار لها أو رؤية خلافها من «الحس السليم» لأنه يتبع الفهم الشائع فلا يرى للأشياء إلا معنى واحداً، وهو المعنى الذي يجعل العالم يبدو كما ندركه، وأن طريقتنا في إدراكه هي طريقة طبيعية وبدهية بذاتها. ومنها حرق النساء في العصور الوسطى وشنق لصوص الماشية وتجنب اليهود خوفاً من إنتان قاتل. ولم يكن دوران الشمس حول الأرض سوى حقيقة ملموسة تؤدي إلى ازدراء القائل بخلافها. وناتج ذلك لدى البنيوية هو القطع بين الواقع وبين تجربتنا له وإدراكنا إياه، هذا القطع الذي يعود إليه الاكتشاف للواقع مثلما يعود البناء العقلي له.
وقد نقول، من الوجهة النظرية للمعرفة، إن الحاجة إلى التجربة والملاحظة، أي الحاجة إلى الواقع التجريبي، هو مجلى الصدقية لما يصل إليه النظر العقلي الخالص، وذلك أمر مخالف لعداء البنيوية للتجريبية. ولكن حسنة البنيوية في مخالفة التجريبية وانتقاصها، أمر واضح في دعم الفروض العقلية وأولية العقل في إنتاج المعرفة وقيادتها وتسريع قفزاتها. والأهم هو النتيجة التي وصلت إليها البنيوية عبر ذلك، من وجود طبيعة واحدة للعقل البشري تعبِّر عن نفسها في ألوان الثقافة التي ينتجها الإنسان. وهذه الطبيعة هي ما يتجلَّى في مشتركات ثقافية لا يُهتدى إليها بالملاحظة –كما فعل فريزر أو مالينوفسكي في رصدهما للمظاهر الأنثربولوجية في ثقافات مختلفة- وإنما بالبناء العقلي لها في كلية شاملة، وهو ما فعله شتراوس، الذي وصف هذا البناء الكلي بأنه بناء خفي لا يوجد على سطح الظواهر وإنما يتم اكتشافه عقلياً. وعلى عكس ما ترى التجريبية من أن المعرفة -من حيث هي تجريد للواقع- هي عملية طرح بنفي الزوائد على الحقيقة والتخلص منها من أجل كشف ماهية الحقيقة وتحريرها، فإن البنيوي ألتوسير يرى المعرفة عملية إضافة إلى الواقع، لأن الحقيقة المعرفية –لديه- ليست في الواقع مكتفياً بنفسه، ودور العقل ليس مجرد التسجيل للحقيقة بوصفها وجوداً كاملاً في خارج العقل.
ولا تختلف النتيجة التي أحرزتها البنيوية للمعرفة بمخالفتها التجريبية ومجاوزتها، عما أحرزته بمخالفتها للتاريخية. فعلى الرغم من أن إقصاء البنيوية للتاريخ جردها من الحيوية وأعجزها عن الكشف عن التغير والتحول، فإن لا تاريخية البنيوية دحضت الفردية بوصفها منبع المعنى وأصله، ومن ثم سجنه. وهذه خطوة حققتها البنيوية وجاوزت بها ما كانت تعتقده النظريات قبل البنيوية التي كانت تربط بين النتاج الأدبي والذوات البشرية التي تنتجه أو تقرأه من حيث هي ذوات فعلية معينة تاريخياً وواقعياً أي ذوات شخصية. وحقاً هي ذوات ولكنها ذوات من موقع غير معيَّن، وليس ربط معنى النص الأدبي بمقصدية مؤلفه -ما دام الأمر كذلك- سوى ادعاء، وهو ادعاء لو صح لكان النص الأدبي أشبه بالأحاديث العملية في حياتنا اليومية.
وإذا كانت البنيوية قد اتخذت من تركيز الرسالة على نفسها، بحسب وَصْفة جاكوبسون، منظوراً لصياغة مفاهيمها الأدبية، بما جعل الشعر من بين الأجناس الأدبية أوضح مجلى لمفهومها الأدبي، فإن البنيوية متضافرة مع السيمولوجيا قد أسهمت –على رغم ذلك- في تطوير «علم السرد» وبلورة مفاهيمه واكتشاف أدواته التي تغدو بمثابة لغة يشتق منها كل عمل سردي ما يصنع به سرده. ولقد كانت دراسة الشكلي الروسي فلاديمير بروب –مثلاً- لـ»مورفولوجيا الحكاية الخرافية» خطوة جوهرية في صميم البنيوية، انتهت باكتشافه بنية ثابتة تتنوع ضمنها الحكايات، وتعود بأجمعها إلى سبع مجالات للفعل وإحدى وثلاثين وظيفة. وجاء نموذج العامل لدى جريماس في الاتجاه نفسه ولكن بطاقة مفاهيمية أكثر دقة ومرونة. وحين نفحص الآن عُدَّة التحليل السردي ومفاهيمه المتداولة فسنجدها تعود إلى البنيوية من جهة وإلى تضافرها مع السيمولوجيا من جهة أخرى، والأسماء التي تقرع أسماعنا غالباً في علم السرد هي أسماء تمثِّل تلك المرجعية، مثل بارت، وتودوروف، وجينيت، وإيكو، وهامون وأمثالهم.
لكن البنيوية واجهت من خصومها اتهاماً مركزياً تتفرع عنه وتعود إليه كل النقود الموجهة إليها، وهو «إنكار» الإنسان، أو «إلغاؤه» أو «القضاء» عليه أو «موته» أو «قتله».. باختلاف صيغ الوصف لذلك وبتنوعها في دلالة التعبير عن الاعتراض على البنيوية والإدانة لها. وهو اتهام جاء من المثاليين العقليين، ومن الوجوديين، كما جاء من الماركسيين، ويصف ما تتكشَّف عنه البنيوية من تضحية بـ»الذات» أو مجاوزة لها لحساب البنية من حيث هي نسق دلالة كلي لا زمني يطغى على الإنسان ولا يبقى له معه فعل أو حرية. وما دامت البنيوية تنكر الإنسان على هذا النحو فإنها تنكر التاريخ لأن البنية ثابتة وكلية والتاريخ تغير وتحول، وتعارض أي منظور للدراسة والتحليل يجعل من الذات الإنسانية مصدراً للمعنى الأدبي، ولازم ذلك أن لا يغدو للأدب قيمة جمالية لأن الجمال قيمة إنسانية. ولقد شاعت للاستدلال على إقصاء البنيوية للإنسان –مثلاً- مقولة شتراوس: «الأنا طفل الفلسفة المدلَّل الذي لا يُحتَمل، جاء ليشغل مكان الصدارة فوق خشبة المسرح الفلسفي، فوقف بذلك حجر عثرة في وجه كل عمل جدي، نتيجةً لرغبته المستمرة في الاستئثار وحده بكل انتباه». ولم تنج البنيوية ذات الوجهة الماركسية من هذا الاتهام، على الرغم من الإحالة فيها على الواقع التاريخي الاجتماعي، فالتاريخ –فيما يقول ألتوسير- مسيرة من دون ذات».
وقد رد بعض البنيويين على الاتهام الموجَّه إلى البنيوية بإنكار الإنسان، وخاتمة كتاب جان بياجيه –إذا اتخذناه مثالاً على هذا الدفاع- تشتمل على دفاعه عن البنيوية. فهو يؤكد على أن البنيوية «لم تقتل الإنسان ولم تقتل نشاطات الذات» وما حدث من وصف البنيوية بذلك هو من خلط المفاهيم الذي أنتج لبساً في مفهوم الذات. ثم يوضح معنى الذات بالتفريق بين «الذات الفردية» التي لا تهم الدراسات البنيوية من قريب ولا من بعيد، و»الذات المعرفية» وهي «النواة المعرفية المشتركة بين كل الذوات (الفردية) في المستوى نفسه». وعلى ذلك فإن الذات الإنسانية التي اتُّهمت البنيوية بقتلها أو إنكارها هي الذات الفردية، أي الذات الشخصية، وبالطبع فلسنا في مجال المعرفة العلمية في حيز الحسبان للعلاقات الشخص ية بأي حال. ولو قارنا في هذا الصدد بين البنيوية وبين غيرها من الطرق المنهجية التي تتصف بالنظرة العلمية فلن نجد اختلافاً في التجرد من الشخصي والتجافي عنه، بل إن البنيوية تدرس مالم تقبل تلك المناهج إدخاله في حيز الدرس العلمي، كما هو حال الوضعية المنطقية –مثلاً- التي تقصي الأساطير والحكايات الخرافية وكل مالا يمكن إخضاعه للتجربة، وتراه فارغاً من المعنى.
وعلى رغم ذلك فقد كانت علمية البنيوية هذه في شأن الأدب هي حائط الصد لها الذي حرف مسارها وثبط همة الحماس لها. وقد روى تودوروف في خاتمة كتابه «الشعرية» هذه النهاية التي آلت إليها البنيوية، مبتدئاً بشرط العلم لكي يكون علماً، فالاعتراف بالأدب موضوعاً للدراسة ليس كافياً لتبرير وجود علم قائم بذاته حول الأدب، ولا بد من إثبات اختلاف الأدب اختلافاً مطلقاً، أي أن يتحقق للعلم استقلال بموضوعه. والحق أن الأدب لا يستقل بذاته موضوعاً للأدبية التي أرادت البنيوية أن تنشئ عليها علم الأدب، إنه يشترك في خصائصه مع أنشطة أخرى غير أدبية، فجُمل النص الأدبي -فيما يدلِّل تودوروف- تشترك مع كل الملفوظات الأخرى في جل خصائصها. وسماتها التي عُرِفَت بأنها أخص خصائصها توجد في التلاعب بالألفاظ وترديدات الألعاب والمنطوق السوقي... ويشترك الشعر الغنائي مع الملفوظات الفلسفية في بعض الصفات، ويشترك في أخرى مع الصلاة والمواعظ. والقصة الأدبية قريبة من قصة المؤرخ والصحافي والشاهد. ويتعجب تودوروف إذا ما تساءلنا عن صورة أدب محض لا يشترك مع غيره من صور الكلام غير الأدبي، كم ستكون فقيرةً صورة هذا الأدب! هكذا يغدو القول بعلم الأدب، ملبِساً بالضرورة لأنه لا تتوافر له الاستقلالية بموضوعه ومنهجه، فليس هناك علم واحد للأدب، والسمات المميزة للأدب ليست مقصورة عليه. ولذلك فلم يعد من مبرر لخصّ الأدب وحده بنوع الدراسات التي أنتجتها البنيوية حول الأدب، وينبغي ألا نعرف النصوص الأدبية معرفة مقصودة لذاتها وإنما نعرف كل النصوص بل كل الأنشطة الرمزية. وقد رأى تودوروف في ضوء ذلك استحالة البنيوية إلى «علم الخطاب» وقال معبِّراً عن هذه النهاية في آخر جمل كتابه: «فما كادت الشعرية تولد حتى وجدت نفسها مدفوعة بموجب نتائجها ذاتها، إلى أن تقدّم نفسها قرباناً على مذبح المعرفة العامة» لكنه يردف ذلك بالقول: «وليس من المؤكد أن يكون هذا المصير مدعاة للأسف».
وهذه العبارة الأخيرة دالة على تمثُّل تودوروف للبنيوية من حيث هي تجربة معرفية كغيرها من تجارب المعرفة، وأخطاؤها التي قادتها إلى هذا المصير هي في حد ذاتها قيمة معرفية تضيف ولا تنتقص المعرفة، وترهن مكتسبات النظرية في ما بعد البنيوية لخسائر البنيوية ولنجاحاتها أيضاً.
الرياض