الكثير من الأعمال الأدبية أخذت طريقها سريعًا إلى النسيان حين عمدت إلى مثالية أبطالها الذين يصنعون نهاياتها، لكن الكتابة حين تعمد إلى الصدق والهم الإنساني المشترك تبعث في حرفها الروح وتمده بعمر أطول مما كان يعتقد كاتبه إلى أي حد سيقرأ!
كان فاتحة الطوفان السير ذاتي في القرن الثامن عشر، الذي أصبحت معه تلك السير أعمالًا (كلاسيكية) من الأدب العالمي، وكان أشهرها على الإطلاق (اعترافات) (جان جاك روسو)، الذي عرى شخصه بصورة مستقلة عن باقي المحاولات السيرية بهدف عرض ضعفها الإنساني, ودون رغبة لتجميل هذه الاعترافات أو المفاخرة بها، وإلى جانب ذلك كان عرضه لأبرز المراحل التي نبذه المجتمع فيها حيث حاول الحديث عن المسكوت عنه.
وحين بدأت بقراءة الاعترافات بترجمة: محمد بدر الدين خليل، استوقفني تقديم: حلمي مراد للاعترافات بأجزائها الثلاثة، حيث عنون المقدمة بـ (حلم .. طالما تمنيت تحقيقه) وعلل تمنيه باقتباس نقله عن سلامة موسى: «..واعترافات جان جاك روسو من الكتب التي كان يجب أن تترجم إلى لغتنا قبل 100 أو 150سنة.. فلقد تغيرت أوروبا بتأثير أفكار هذا الأديب. ونستطيع أن نعزو أهم التطورات التي حدثت في هذه القارة إلى آرائه، التي يتلخص مغزاها في كلمات معدودة، هي: أن الطبيعة حسنة، والإنسان طيب، ولكنهما يفسدان بالمجتمع السيء».
إن الفكرة التي استقرت في داخلي حول اعترافات (جان جاك روسو) قبل أن أقرأها هو «أن الأسلوب الاعترافي العاري، إنما هو امتداد لما اعتاده النصارى في ملتهم أمام الكاهن أو القسيس بما يجترحونه من السيئات والذنوب وما يقعون فيه من الآثام». وعند قراءتي مقدمة حلمي مراد وجدته يضيف لهذه الاعترافات معنى آخر فذكر أنها تحمل أثرًا للتوبة، ولكنه – في الواقع - أثر طفيف، خفيف، يطغى عليه عامل أقوى وأشد، «فماذا كان يبغي روسو من اعترافاته؟.. كان يسعى إلى أن يقدم تجاربه للناس، سيما في ميدان التربية ورعاية النشء. لينبه الآباء إلى العوامل التي قد تدفع بالأبناء بعيدًا عن جادة الصواب.. ولينبه المجتمع إلى الأشياء التي تنكبه بالمنحرفين من الأعضاء... كل هذه الصور توحي بأن (الاعترافات) لم تكن في غايتها سوى دروس اجتماعية وتربوية.» وحين يريد القارئ أن يتحقق من صحة ذلك، فإنه يبدأ بقراءة العمل وهو يرغب في التقاط الدروس التي نثرها روسو في كراساته، وهي مجموعة كبيرة من الدروس تناقش محاور أشغلت روسو في ذلك الوقت (قضايا الإيمان، والتربية، والتعليم، والأخلاق، والمجتمع، وفن الكتابة، وأخيرًا هوايته المحببة رياضة المشي) فمن تناول للأفكار وتعريج إلى الاعتقادات ثم وصولٍ إلى الهوايات.
يواجه القارئ في بداية الدروس التربوية عند روسو مفهوم الإيمان، الذي يرى فيه أن قدرات الإنسان التي وُهبها أكبر من أن تجعله يقف عاجزًا أمام شهواته: «الفضائل لا تغدو عسيرة المنال إلا بفضل أخطائنا، والميول المنحرفة التي يسهل قهرها تتعجل انحدارنا لأننا لا نقاومها، كما أننا نقع –دون أن نفطن- في مآزق خطيرة كان من اليسير علينا أن نتوقاها، ولكن –متى وقعنا فيها- لا نستطيع أن ننتزع أنفسنا منها دون جهد مستبسل يضنينا، وفي النهاية نهوي إلى الدرك الأسفل، ونحن نلوم الله، ويسأله كل منا في عتاب: « لماذا خلقتني ضعيفًا بهذا الشكل؟» ولكننا على الرغم من أنفسنا نسمع ضمائرنا تجيب بلسانه « إنما خلقتك أضعف من أن تقوى على إنقاذ نفسك من الهوة، لأنني خلقتك أقوى من أن تسقط فيها!» ص152.
وجاءت الاعترافات في المنحى التربوي امتدادًا لكتابه (إيميل) في التربية بل كانت اعترافاته أكثر صدقًا لأنه أحسها بنفسه إثر التصرفات غير الحكيمة بقصد توجيه الأطفال، وما زالت أوروبا تفيد من أساليبه التربوية، يتذكر روسو شقيقه ويعزو سبب انحرافه إلى أسلوب تربية والده الذي اعتمد فيها على تفضيل روسو: «وكان لي شقيق يكبرني بسبع سنوات، يتلقى عن أبي حرفته. وكان من جراء الحنان الضافي الذي أسبغه أبي علي، أن أهمل هذا الأخ، وهي معاملة لا أقرها ولا أحبذها! وتأثرت تربية أخي بهذا الإهمال، فسلك مسالك السوء قبل أن يبلغ سنًا تتناسب مع إدمان الفجور» ص31. وفي حادث سرقة أملتها عليه طفولته المشاكسة لم يحسن المربي كيف في جعل روسو يعترف بها وقد اضطره إلى اتهام غيره: «وجود كل هذا العدد من الناس كان أقوى تأثيرًا على نفسي من التوبة! وما كنت خائفًا من العتاب، وإنما كنت خائفًا من العار، ولو أنهم أتاحوا لي فرصة استرد فيها رباطة جأشي، لما كان ثمة ريب في أنني كنت أعترف إذ ذاك بكل شيء! لو أن السيد ديلا روك انتحى بي جانبًا، وقال لي : لا تفسد على هذه الفتاة المسكينة حياتها، إذا كنت مذنبًا فاعترف لي، لألقيت بنفسي في الحال على قدميه، إني لموقن تمامًا من ذلك! ولكني حين افتقدت التشجيع، لم ألق منهم سوى الإرهاب.»ص201 ، ويرى روسو أن حرمان الطفل بدعوى تربيته سبب كبير في انحرافه: «تعلمت كيف أكتم ما أشتهي، وكيف أنافق، وأكذب، وأخيرًا أسرق! ... وأكاد أقول أن الذي يدفع الطفل إلى أن يخطو أولى خطواته نحو الشر، هو دائمًا المبادئ الطيبة التي يساء توجيهها»ص82، حتى الأشياء الصغيرة حين نحرم الطفل منها إنما ندفعه دفعًا للحصول عليها بأي طريقة كانت: «يبدو لي أن اعتياد إقصاء الصغار عن المائدة، في الوقت الذي تحمل إليها أشهى الأطعمة، هو أروع طريقة تنتهج لجعلهم نهمين ولصوصًا» ص85، وبعد أن نجعل الطفل يضطر إلى السرقة لا يغدو الضرب نافعًا فيقول عن الخطأ الذي ارتكبه في طفولته في حديقة المنزل: «راح السيد لامبرسييه يكيل الضربات في كل اتجاه، دون ما رحمة، فكأنما كانت كل منها تصيب قلبينا مباشرة!» ص62. ومرة أخرى: «على أن حساسيتي إزاء العقاب لم تلبث أن ضعفت، من جراء سوء المعاملة المستمر، فكنت أنظر إلى السرقة على أنها نوع من التعويض يخول لي الاستمرار فيها! وبدلًا من أن أستعرض ما فات وأقدر ما كنت ألقى من عقاب، رحت أتطلع إلى الإمام وأفكر في الانتقام! ... وكنت أقول لنفسي: «ماهي النتيجة؟ سأضرب؟ لا بأس لقد تعودت الضرب» ص87. ويتحدث عن آثار العقاب حين يكون ظلما للطفل دون تحرٍّ عندما كان تلميذًا للآنسة «لامبرسيه» بقوله: «فما أشد ما تتغير آلية معاملة المرء للصغار، إذا قدر له أن يرى بجلاء مدى آثار أسلوب المعاملة المألوف، الذي ينتهجه دون ما تبصر وحكمة فجنحت إلى الكذب والرياء»، ويبين في سياق حديثه عن المدة التي قضاها في تعلم حرفة الحفر على المعادن، كيف يُدفع الطفل إلى الخضوع لما يوحي به إليهم هؤلاء الكبار، إذ تعود جان الصغير، السرقة بإيعاز من زميل له ص13-14.
وفي دروس روسو في التعليم يذكر أنه حين وُفق بمعلمه (جريم) الذين مده بالكثير من مفاتيح النجاح وفهم الحياة وأسرارها، وكأنه يريد ممن امتهن التعليم أن يساعد الطالب لفهم ذاته ويأخذ بيده لمعرفة مهاراته التي يمتلكها: «أطلعني على مواهبي فكان يوليها ما كانت جديرة به من تقدير، ولكنه كان يضيف إلى ذلك أنه كان يرى عقبات تنبعث منها وتحول بيني وبين الإفادة منها» ولأن المعلم يجب أن يساعد الطالب على فهم تعقيدات العالم فقد: «بسط أمامي صورة صادقة للحياة الإنسانية، التي لم يكن لدي عنها سوى أفكار زائفة.. بين لي أن لا وجود للسعادة الحقة بدون الفطنة والدراية.. وبدد إعجابي بالعظمة والأبهة الظاهرتين، إذ ثبت لي أن أولئك الذين يتبؤون الحكم بين الناس ليسوا أسعد ولا أوفر حكمة وعقلًا من المحكومين» ويتمكن فهم الطالب لما يريده معلمه حين يشعر بأهميته: «لم أشعر بالملل من أحاديث السيد جاييم، بل وجدتني أشغف بها لوضوحها وبساطتها، ولذلك القدر من حرار القلب التي كنت أحس أنها تزخر به»ص210-211. على أن المعلم والملل من توجيهاته أشبه بالأمرين المتلازمين، يحدث ذلك حين يستخدم الأسلوب المباشر في عرضه وحين يواصل إلحاحه بضرورة فهم ما يقوله: «الخوف من عدم التعلم يحول دون أن انتبه، كما أنني خوفًا من أن أجعل الشخص الذي يتحدث إلى يفقد صبره أتظاهر بالفهم ومن ثم يمضي قدمًا في حديثه دون أن أعي شيئًا» ص273، «إن الرغبة في حمل الشباب على الإصغاء لما يراد قوله لهم، بإطلاعهم مقدمًا على غاية جد مشوقة لهم، أسلوب معكوس، وإن كان جد مألوف لدى المعلمين» ص438. ولم يغفل روسو أهمية أن تكون البذور الأولى في تعليم الطفل حين يتلقاها من قدوته الأولى في الحياة (أمه): «بذور تعلم القراءة كان بسبب مكتبة الوالدة وكذلك المكتبة التي ورثتها من والدها بعد ذلك « كان القصد من ذلك –في البداية- مجرد تدريبي على القراءة، بالاستعانة بالكتب المشوقة، ولكن الشغف لم يلبث أن دب فينا، فكنا نتناوب القراءة دون توقف، وننفق ليالي بأكملها في هذا العمل..» ص28.
طالبة دراسات عليا,قسم الأدب,جامعة الإمام
الرياض