(أ)
هل وجود الأكثريّة طبيعيّ لا يُطعن به أمْ وجود مُفترضٍ ومُصنّع؟ وما هي الأكثريّة الطبيعيّة إن وجدت في الإنسان؟ وما هي المصنّعة؟ ولأيّ غايات يتمّ الخلط والتداخل بينهما؟ ويهمّني قبل مناقشة أسئلة المقال أن أفرّق (أ) بين وقوع الأكثريّة أو الأقليّة في العدديّة العرقية، المناطقيّة، القبليّة، النفوذيّة، الطبقيّة (ب) وبين وقوع الأكثريّة أو الأقليّة في النطاق السياسي والدستوريّ والآراء والمواقف المُؤثّرة والمتأثّرة باتّخاذ القرارات وصناعاتها.
فالأكثريّات والأقليّات استناداً لمعتقدات الإنسان وأعراقه وطقوسه الخصوصيّة بوصفه منتمياً لجماعة إنسانيّة عبر روابط متشابهة، لا ينبغي حملانها على مفاهيم الحقّ والباطل والتفاوت الحقوقي والسياسي ارتهاناً لمنطق القوّة وسياسة الوقائع على الأرض؛ فالأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة التي تخلّت عن الخلط بين (الأكثريّتين) كان يعنيها السلم الأهلي، وقد راهنت أن الإنصاف السياسي لجميع الأفرقاء بعيداً عن انتماءاتهم الاجتماعيّة وحريّتهم في الرأي السياسي هو الضمانة لحماية الكيان، إيماناً منها أنّ حكم الأكثريّة الاجتماعيّة: العرقيّة أو العقائديّة لا يُفضي إلى إنشاء كيان يريد أن يضمّ العديد من الأعراق والقوميّات ويريد أن يتجاوز جحيمها وصراعاتها باتّجاه الأمن والتعايش والمساواة الحقوقيّة السياسيّة؛ بحيث إن اختلافك العرقي وانتماءَك إلى أكثريّة عرقيّة لا تعطيك أفضليّة سياسيّة، وإنّ خصوصيّاتك محلّ حماية يصونها التشريع والتنفيذ، لكنّها تبقى خاصّة بك أنتَ، وليست خاصّة بوهم التفوّق والاستعلاء بوصفك مواطن درجة أولى وغيرك درجة أدنى؛ إذّاك ظهر مفهوم الأكثريّة السياسيّة الحاكمة، والتي هي أكثريّة مصنوعة من جميع المنتمين لهذا الكيان، وهي من المرونة أنّها متبدّلة، وأنّ فكرة انتمائها لرأي ما أو تشريع ما ثمّ العدول عنه ليس مرتبطا بمفاهيم دينيّة أو قوميّة تقيّيد انتقال تأييد المرء من برنامج سياسيّ لآخر.
أمّا الدول التي لم تصل بعد إلى التفرقة بين الأكثرية الاجتماعية والأكثريّة السياسيّة وتدخل أو تريد أن تمارس الديمقراطيّة من باب (تقليد التابع) فإنّما تقع في مسوخ سياسيّ لا تختلف نتائجه، فلا الصراع يختلف أو يقلّ وتيرته لأنّ الغلبة العنصريّة تبقى كما هي، ولكن بإضافة تزويريّة في نماذجنا العربيّة (أسلمة الفكر السياسي الغربي)، التي تبرّر استبداد الأكثريّة العرقية أو المذهبيّة بالاستناد إلى انتخابات ديمقراطيّة. هكذا وفي غياب الأكثريّة السياسيّة عن العمل السياسي ومراكز صناعة القرارات يتم التعويض عنها في البلاد العربيّة بالأكثريّات الاجتماعيّة لتأييد قرارات الأقليّة الحاكمة، ولضمان ثبات مواقفها وتأييدها لأن اللجوء إلى (الأكثريّة الاجتماعيّة) ضمانة للصانع السياسيّ للحفاظ على صناعته، لأنها أكثر طبيعة وأقلّ مرونة من (الأكثريّة السياسيّة) التي تتأثر بالبرامج السياسيّة القابلة للتداول والسيولة؛ فالخلط بين أكثريات اجتماعيّة وتحويلها -سياسياً- هو جزءٌ من صناعة الأكثرية في الدول العربيّة لأجل اكتساب شرعيّة للغرض الذي لأجله تمّت صناعته.
(ب)
معلومٌ أنّ (مصطلح الأكثريّة) في الأنظمة الديمقراطيّة الرئاسيّة والبرلمانيّة أساسٌ في البنيان السياسي والدستوريّ ويقابله سياسيّاً مصطلح الأقليّة، بحيث إنّهما على هذا التوصيف تبعاً لنتائج الفرز الانتخابيّ لأصواب الناخبين، فهما مصطلحان سائلان يتغيّران بين دورة انتخابيّة وأخرى، وخروجهما عن الحقل السياسيّ البرلماني أو الرئاسي يدخلهما في أزمة يختلقها التطرّف أيّاً كان مرّده: سياسيّاً، دينيّاً، طوائفيّاً، لكنّ غايته تنصبّ في استغلال ما يمكن نعته أو افتراضه (بالأكثريّة) خارج العمل السياسي.
وعلى الرغم من قيمة هذا المصطلح في النظم الغربيّة الديمقراطيّة: أنّه الحكم في التشريع، وأنه التفويض في التنفيذ، والمؤثّر على شؤون الحياة العامّة بشكل لا مثيل له، لكن يستثنى من الحقول العلميّة؛ فلا أكثريّة تستطيع أن تصوّت على إلغاء معلومة علميّة ككرويّة الأرض، فالعلم يُرفض أو يُعدّل أو يُثبّت بالعلم نفسه، فإدخال مفاهيم الخطأ والصح والباطل والحق، ضمن مفهومي الأكثريّة والأقليّة يخدش من قيمة الأخلاق نفسها. وهذا الخلط التضليّلي بين وجود أكثريّة اجتماعيّة ما وبين الاتكاء عليها في مسائل الحقوق والسياسة يلغي أيّ دلالة انتفاعيّة وصدقيّة للصح والخطأ ويلحقهما في أدوات المستبدّ؛ فتكون الأكثريّة على حقّ وصواب لأنّها أكثريّة، وهي صاحبة الملكيّة لأنّها أكثريّة، والوطن لها أوّلاً أو خالصاً لأنّها أكثريّة، فأيّ معن للاستبداد أعنف من هكذا خلط يفرز عنصريّة واستيلاء على الحقوق ويجعل المكوّنات السكّانيّة لأي دولة تحت فتنة دائمة، حينما يتدخّل أو يحكّم مفهوم الأكثريّة الاجتماعيّة ويسيطر على مفهوم الأكثريّة السياسيّة بل يطغى عليها ويطمسها ويستغلها. وهذا ما نعيشه حالة عربيّة من المحيط إلى الخليج حتّى الدول الشموليّة التي لا تمارس تمثيلاً برلمانيّاً تراها متورّطة بطريقة أو بأخرى ضمن انتخابات داخليّة لا تحدّ من الخلط بين الأكثريّتين، كما إنّ علاقاتها السياسيّة الخارجيّة تستند إلى خلط بين الأكثريّتين.
(ج)
الأكثريّة ليست حالة مستقرّة، ووجودها مرهونٌ ومتأثّر بالانتساب، فكينونتها الافتراضيّة منسوبة إلى شيءٍ يفصح عنها ويظهرها، والإدراك بهذه الكينونة يبرز قدرة تفكيك أيّ أكثريّة إلى أقليّات بالاعتماد على الانتسابيّة، ثمّ إعادة تجميعها وفق انتسابيّة تخصّ الصانع/ صاحب التركيب الجديد. الأكثريّة إذاً، وتبعاً لهذا التفكيك هي افتراضٌ وليس انتهاء، فلا توجد أكثريّة جامدة، كأنّها كتلة واحدة صامدة عن التجزئة إلى انتسابات أقلّ عموميّة وأكثر خصوصيّة. وعدم وجود أكثريّة صامدة تأكيد على أنّ إيجادها مردّه: (الافتراض، النسبة، الوقت، الحاجة، جهة التصوّر والمنظور، التحالف، التوافق..) وهي عوامل تدخل في أدوات التركيب والصناعة، فكلّ قابل للتفكّك قابل لإعادة التشكّل والتصنيع؛ أيْ أنّك تستطيع أن تصنع أكثريّة وتصدّرها وتنتج من ورائها مراكز قوى. هكذا نميل إلى عدم وجود الأكثريّة ككتلة صامدة، لأنّ وجودها السابق ليس نشوءاً طبيعيّاً إنّما نشوء صناعي لقوى حاكمة ركّبتها على هواها.
فإذا قيل جدلاً: إنّ الأكثريّة موجودة طبيعيّاً فهي صامدة لا تتجزّأ كوجود الفرد، كأكثريّة المياه على الأرض وأقليّة اليابسة، فإنّ سؤال النسبة يخطر على بال القارئ: (عن أيّ أكثريّة نتحدّث؟!) وهذا السؤال الباحث عن نوع الأكثريّة ينفي وجودها جامدة ومجرّدة غير منسوبة إلى شيءٍ، ولكم يبدو ما أصدّره بداهة لكنّ الاحتكام إليه فكراً وثقافة وسياسة يبدو متوارياً، على غلبة التوجيه والبرمجة في إخفاء ما هو واضح، فتجد الكثير من المفكرين والمثقّفين يقعون باعتبار الأكثريّة مسألة محسومة ولا تتجزّأ؛ (والبركة في الإعلام الرأسمالي والشموليّات السياسيّة).
حسناً، أعود إلى السؤال الباحث عن نوع الأكثريّة: فإن كانت إجابته مثلاً: (أكثريّة سنيّة) فإنّنا -هنا تحديداً- نبيّن ما يؤكّد نفي جموديّة الأكثريّة وطبيعتها لأنها لا تكون إلاّ منسوبة، وكلّ منسوب إلى عموميّات يتجزّأ بانتساباتٍ أقلّ عموماتٍ وأكثر خصوصيّاتٍ؛ فالأكثريّة السنيّة (عبارة مصنوعة وليست نهائيّة)، فلدينا في السعودية مثلاً: يمكن تجزئتها ضمن إلى: (وهّابيّة، سلفيّة، صوفيّة، شافعيّة، حنبليّة، علمانيّة، ليبراليّة، وأُخر..) ويمكن تجزئتها من حيث الطبقة، أو العرق، وقد يتساءل القارئ (كيف تضع العلماني ضمن الأكثريّة السنيّة؟ ويكون الردّ أنّ الإحصاء أو الاعتماد على منطق الأكثريّة المصنّعة يستخدم الإحصاء المسجّل، وأنت تعلم أنّ العلمانيّة كفكر سياسي ليست مذهباً يقاس اعتباره في الإحصاء لدينا، وكثير من العلمانيين السعوديّين وغيرهم ينتسبون إحصائيّاً لإحدى المذهبين الكريمين، وبالتالي تتداخل أقليّة سياسيّة مرنة في أكثريّة افتراضيّة إحصائيّة جامدة).
هكذا تتفكّك الأكثريّة المفترضة إلى أقليّات أكثر واقعيّة ووجوداً من الأكثريّة العموميّة، وكلّما زدنا في التفكيك كلّما وصلنا أكثر إلى المؤثّر الواقعي الفعلي وصولاً إلى الفرد، وهو ما يجعل الفرديّة الحالة الطبيعيّة التي نصدّر لها ونعتمد عليها في فكرنا وثقافتنا، بينما (ما غيرها) افتراض وتصنيع. وهذا ما يمكن أن يكون مدخلاً واضحاً في صناعة الأكثريّة عبر السياسي والمالي والديني والإعلامي، عبر إنتاج العموم/العامّة وإعادة تشكيله وصناعته تبعاً لاقتضاءات الظرفيّة والنفعيّة والإمكانيّة التي تخدم الصانع وأعوانه، والذين هم أقرب إلى الأقليّة السياسيّة.
Yaser.hejazi@gmail.com
جدة