منذ الأزل وعالمنا يسير في نمو مستمر, وفي وجهٍ هو فيه أدق من عقرب الثواني, لا شيء يضنيه ولا يلهيه ولا يثنيه؛ إن لم يتحرك بقوة إلى الأمام, فهو حتما يفعل ذلك ببطء!
وحصل أن توارث الناس أنفسهم, وتبع القرن أخاه, وكلهم لا أثر لهم سوى العلم الذي قدموه لنا.
بالأحرى فإن هذا العلم؛ هو الذي قدم لنا تلك الأمم, فهو وإن كان أثرا لها, إلا أنه سرعان ما يتحول إلى بطاقة تعريف خالدة, فعلم التفكير -المفضي إلى فلسفة المواد- قدم لنا اليونانيون على مسرح التاريخ, وتلا علينا أسماءهم.
وكانت العملية الناقلة لنا والمحركة لهم والمؤثرة في كلانا هي التعليم, وهي الوسيلة المربحة كما أدركها الأمريكي ديرك بوك بقوله: (إذا كنت تعتقد أن التعليم مكلف فجرب الجهل).
وللأسف: لا نعلم حتى الآن أداة توصلنا إلى التطور غير التعليم, ولا شيء يوصلنا إلى تحقيق طموحاتنا غير الدراسة, وهو ميزان غريب! فكلما ثَقِلْتَ علما ازددت جهلا بنهاية هذا العلم, غير أن العالم اليوم هو -باختصار- محصلة تعلم الإنسان..
في السيرك لا مكان للأسد البليد, أو الفيل الكسلان, أو القرد الغبي, وحده المتميز هو الذي يحصد تصفيق الجمهور وإعجابهم, وحينما كان التعليم ناجحا في السيرك, استطاع الأسد أن يمشي على قدمين, والفيل أن يجلس على طاولة, والقرد أن يستعمل الدراجة!
إن التعليم أداة صعبة! يكون الضرر عند إهماله على مقياس ريختر, والفائدة عند خدمته على مقياس التسارع -صعودا-, حيث ما من شيء يمكن للتعليم عمله سوى الرفع أو الخفض, مخلفا وراءه أجيالا تحقق المستحيل, أو أجيالا لا تعرف أهدافها!
ولن أسرف في الحديث عن تطوير التعليم, فعشرات المقالات سبقت وأن طرحت مئات الأفكار, ولكنتي أتساءل قبل نهاية العام الدراسي: كم من الفرق بين تعليمنا التي تساوي ميزانيته خزائن دولة الأردن عشرات المرات, وبين تعليم الأردن نفسها؟ لا شك أننا سنشعر بالحرج الشديد!
إنني أجزم - متخيلا ذلك على لسان مسؤوليها- أن مناهجنا جيدة, وأن وزارتنا تسعى بجهد إلى توفير كل الإمكانات الفنية واللوجستية.
شيدنا المباني العتيقة والمقاومة للزلازل على درجة 6 من مقياس ريختر! وكذلك وفرنا القاعات الذكية, وقمنا بتعيين الكثير من المعلمين.
أخبرنا المرشد الطلابي أن يتحقق من نفسيات التلاميذ ومساعدتهم, ومنعنا الضرب عن الطالب وتغاضينا عن ضربه المعلم, كم وأهديناه الكتب المدرسية الطازجة من المطبعة-وقمنا بتلوينها أيضا-, وأخرنا هذا الطالب عن الطابور في الشتاء ليدفأ, وقدمناه في الصيف ليهنأ.
وصلنا لأعماق البراري ورؤوس الجبال, ننشد عن تلاميذ أُميين! فبعثنا إليهم معلمين نوصلهم صباح السبت إلى تلك الهجر, ونأخذهم مساء الأربعاء ليستحموا في المدن ويعودوا أدراجهم مرة أخرى!
ألغينا عنهم دروس التشدد خشية التطرف, ودعمناها بأخرى خشية الانحلال, كما أجبرناهم على التطعيم الدوري, فأنقذناهم من الثلاثي الفيروسي والثلاثي البكتيري والشلل!
أقلنا بعض المتشددين, ودمجنا ديوان البنات مع الأبناء, وقلنا للمرأة: أنت هنا مسؤولة كنائب وزير لتعليم البنات.
خاف التلاميذ من أسئلة الوزارة فألغيناها, وتحسسوا من الطباشير فأنهيناها, وقالوا: مطر مطر مطر! عيناك ترغبان في إجازة المطر! فأعطيناها...
إنني أرجو من الوزارة الكريمة أن تكتشف الخلل الذي لم يصاحب أيا من هذه الجوانب الإيجابية لحياة التلميذ السعودي المدلل, فحتما هناك خطأ ما لم نره حتى الآن, ونرفعُ صورة مع التحية لمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام, والذي شدني فيه جمال مبناه وطيب معناه, دون أن يكون له ذكر بين مصاف المراكز المتفوقة الأخرى.
ويذهلني بشدة وأنا أقوم بتدريس جنسيات مختلفة في الجامعة, بين أوربيين وآسيويين وأفارقة قدموا إلينا بعد المرحلة الثانوية, أن أرى الطالب منهم يتكلم ثلاث لغات, ويجيد استخدام برامج الحاسوب المختلفة, ويتحدث عن أهدافه وخططه.
وهذا ما نريده لأبنائنا: (أن يسعى لتحقيق هدفه, وأن يتواكب مع العصر, وأن يتحدث بشكل جيد), وكثر الله خيركم!
كاتب وأكاديمي سعودي
asalamri@ksu.edu.sa
الرياض