تبين مما عرضته في الحلقة السابقة أنّ هناك عامِلَيْنِ أثـّرا كثيراً في أداء ملفّ اللغة العربية خلال السنوات الماضية، هما : العقلية اللغوية التقليدية التي أسهمت في تجميد محاولات التعاطي العلمي (العصري تحديداً) مع اللغة، والبيروقراطية الإدارية التي عطّلت المشاريع المبنية على القرارات السياسية كما أسلفنا، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ نقاطَ التشابه كبيرة بين العاملين، فكلاهما يميل إلى الدفاع عن اللغة على حساب تطويرها وتوسيع دائرتها، وكلاهما كان يتحرك في جوّ محافظ، هو أقرب ما يكون (في بعض حلقاته) إلى الانغلاق...، فتقاعس المؤسّسات التي يمثّلها القرار السياسي عن القيام بدورها يقابله ترويجُ بعض القراءات العلمية لقدسية اللغة العربية، وإيهام الآخرين بأنها فوق الانقراض؛ لارتباطها بكتاب سماوي تعهّد الله بحفظه، متناسين أنّ الحفظَ يتوجه إلى القرآن وليس إلى اللغة نفسها، وحتى لو توجه إليها – عن طريق حفظ القرآن – فإنّه – كما تقرِّر إحدى الدراسات – لا يختصّ إلا بـ 30 % من اللغة، تعبِّر عنها الجذور العربية الواردة في القرآن الكريم (انظر: علي جمعة: اللغة المقدسة وقدسية اللغة).
وأما التموقف سلباً من التطوير الداخلي للغة، فيقابله الموقف الإداري المتخوّف من منح الصلاحيات، ومدّ الحرية الكافية لإنجاز أيّ نشاط يخدم الجانب الثقافي..؛ لذلك يمكن أن نقول إنّ الفضاءَ العام الذي كان يتحرك فيه ملفُّ اللغة العربية لم يكن فضاءً قابلاً للتطوّر ولا للتطوير، ولم يكن قادرا على فهم باقي مشكلات اللغة وإن بدا على وعي جيّد بمشكلتها مع الاستعمار أو محاولات التغريب المتعدِّدة..؛ لذا يبدو من الصعب - في هذه المرحلة الزمنية تحديداً - فتحُ مساراتٍ من الفأل أو الأمل في هذه الأرض الصَّلْدة؛ لأنها ملبّدة بالتقليدية، ومحاصرة بالبيروقراطية الإدارية من كلّ جانب، وفقيرة إلى الرؤى فضلا عن المفاهيم الإجرائية القادرة على توصيف المشكلات الجديدة للغة وتحليلها...، وأحسب أنّ المخرجَ الوحيد من هذا الضيق يكمن في البحث عن أرضٍ أخرى، يمكن أن يهتزّ فيها ملفُّ اللغة العربية ويربو، ويقنع الآخرين بأنه جزء من هذه الحياة.
2-1 تقف (البيروقراطية) في الصفّ المقـابل للأنظمة الحركية الخلاقة، ويفضي إمضاؤها الخاطئ (كما يرى بعضهم) إلى وضع مأزوم، تنتهي معه روح المبادرة والإبداع، وتتلاشى فيه فاعلية الاجتهاد المنتجة، وهي – في نظر أحد الراصدين – دائمة النزوع إلى تحويل الأداة والوسيلة إلى غاية وهدف؛ لذلك تأثرت التنمية بها سلباً، إلى حد نفى معه عدد من الباحثين وجودَ تنمية شاملة بالمعنى الحقيقي للتنمية حتى في بعض الدول النفطية (أسامة عبدالرحمن: البيروقراطية النفطية)، ومن جملة ما تأثر بالبيروقراطية الجهات العلمية المعنية بخدمة اللغة العربية، وتعلّمها وتعليمها؛ كونها مندرجة تحت مؤسسات حكومية تقليدية..، كوزارات : التعليم العالي، والتربية والتعليم، والثقافة والإعلام، وما إليها...
ويمكن أن أشير هنا – على سبيل المثال – إلى عدد من المآزق التي تتعرض لها الجهات اللغويّة في ظلّ هذه (البيروقراطية) الإدارية :
> إحدى الجمعيات اللغوية في دولة خليجية عجزت – على مدى عشر سنوات - عن تأمين مقر لها في الجامعة التي تحتضنها، ولقد أدى تنقّلها البائس بين المقرّات المؤقتة إلى ضياع أرشيفها، وتعثّر التواصل المستمرّ معها.
> إحدى الجمعيات اللغوية عجزت عن تأمين قاعة لإقامة دورات تدريبية، واضطرّت – في ظلّ ضعف المخصصات المالية – إلى اختزال عدد من أنشطتها في أنشطة ضيّقة ومكرورة.
> أحد المراكز اللغوية الكبيرة يستغرق الكثير من الوقت والكثيرَ الكثيرَ من المخاطبات والاتصالات من أجل دعوة أحد المتخصصين في اللغة، أو تنفيذ نشاط عابر ومعتاد. .
> إقامة مؤتمر علمي في بعض الدول العربية تحتاج إلى تنسيق طويل المدى، وإلى ما لا يحصى من الخطابات وأنماط المخاطبات، وربما خضعت قائمة المؤتمر ومشاركوه وسجله العلمي الأولي إلى تدقيق لا علاقة له بالعلم ولا بالمعرفة.
> تحرفت إحدى الجهات اللغوية (اضطراراً لا اختياراً) إلى منح بعض الوجهاء عضويات شرفية، من أجل الحصول على دعم مالي محدود، أو تسهيلات إدارية معيّنة، وربما كانت الفائدة التي يجنيها الوجهاء من عضوياتهم في هذه الجهات أكبر بكثير من مردودهم عليها!!
هذه الصور – وغيرها كثير - تعطي أدلة (ولتكن أولية) على الأثر السلبي الذي خلعته البيروقراطية الإدارية في عدد من الدول العربية على هذا الملف المهمّ...
2-2 إن اعتماد البيروقراطية على «الإجراءات الموحدة وتوزيع المسؤوليات بطريقة هرمية « (كما يعبّر أحدهم) قاد هذه الجهات المعنية باللغة إلى مكاتب إدارية ليست على قناعة (أو قناعة كافية) بقيمتها ولا بأهميتها، وليست على اتفاق دائم على أهدافها. . بل إن سلطة القرار تتسع كلما ابتعدت عن الجهة وتضيق كلما اقتربت من وجهها المباشر، وهذا يعني أنّ أكثر الناس التصاقا بالمؤسسات اللغوية (هما وفكراً وإدارة) هم أقلّ الناس امتلاكاً لسلطة القرار حتى فيما له علاقة بنوعية النشاط؛ لذلك يمكن أنْ نقول إنّ أغلب المراكز والجمعيات اللغوية تندرج – رغم كونها جهات اعتبارية مستقلة – تحت مؤسسات ليست على قدر كبير من الإيمان بأهدافها، أو ليست على قَدْرٍ مُرْضٍ من القناعة بوسائلها، يدلّ على ذلك تراخي هذه المؤسسات عن تقديم الدعم الكامل لها، بل محاولة العرقلة أحياناً، كما تبيّن بعض الصور السابقة.
2-3 من المشكلات التي تعاني منها التنمية من خلال القطاع العامّ الاهتمام بالبنية التحتية أو الجوانب المادية في الحياة على حساب الحاجات الفكرية والثقافية، وحاجات البنية الفوقية (الفكر)، وهذا يبدو واضحاً من قلة الإنفاق على وزارات الثقافة في عدد من الدول العربية، هذا بعد أن نستثنيَ هنا الدولَ التي لم تفكِّر حتى هذه الساعة في إنشاء وزارات خاصة بالثقافة!
إنّ ضعف الإنفاق على البحث العلمي، وعدم المراهنة على التعليم، وعدم الاهتمام بمسائل ثقافية معقّدة، يعطي مؤشِّراً على عدم قناعة القطاع العام بها..!
نحن إذن أمام ثلاث عقبات : إدارية، واقتصادية، وثقافية، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن واحدة منها تكفي للحيلولة دون النهوض بمشروع فاعل للغة العربية، فكيف إذا اجتمعت ثلاثتها في عدد كبير من الدول العربية والإسلامية ؟!
هذا الوضع الصعب يجب أن يدفعنا – غيرة على اللغة العربية – إلى البحث عن ملعب آخر، يمنح ملفّ اللغة العربية القدرة على أداء قلقه ومسؤولياته فيها براحة تامّة...، ولا أحسب أنّ هناك بيئة أخرى أفضل من القطاع الخاص، خاصة في الدول العربية، ودول الخليج العربي تحديداً..
يتبع
@alrafai
الرياض