من وجوه البصرة المعاصرة، عرفته إحسان السامرائي ونحن في الصف الرابع الإعدادي. عندما ينهي الأستاذ مصطفى عباس - رحمه الله- درس اللغة العربية الجميل، وتبدأ فرصة الإستراحة يغني السامرائي وحده في الصف «يا نسمة تسري إلى ديار الحبيب» ثم يمسك بطرفي الرحلة - كرسي الطالب الخشبي ويحلم بالطيران فهو يعشق الطائرة النفاثة. كبرنا على الطيران و كبرنا على العشق، عشق النسمة التي تسري إلى ديار الحبيب.
هجرت الوطن نحو المنفي وأصبح السامرائي إحسان مديراً لتلفزيون البصرة وأصدر في مدينة البصرة جريدة «المرفأ». وبجنون الدكتاتور الذي استدعى لمحاكمة حزبية علنية عدداً من الحزبيين في حزبه وأعدمهم أو زجهم في سجون مظلمة، كان السجن المظلم من نصيب إحسان السامرائي الذي في إحدى زيارات الدكتاتور للسجن طلب منه السامرائي بسبب معاناة الزنزانة أن يعدمه فرفض الدكتاتور قائلاً «أريدك أن تحيا معذباً» ولم يكن للسامرائي إحسان أي شأن في ما أسموه بالمؤامرة لا من قريب ولا من بعيد فهو أديب مرهف وكاتب ومؤرّخ ولا يحب السياسة ومداخلها ومخارجها.
البحث عن كتاب مفقود ونادر أول ما يتبادر للذهن هو الذهاب ليس إلى المكتبة، بل إلى بيت إحسان للحصول على ذلك الكتاب.
أنتج الكاتب والأديب والصحفي والفنان إحسان السامرائي مؤلفات في الأدب والأسفار والبصرة وأرَّخها. هو من سامراء لكنه لم يشاهدها، إذ عاش بين ديالى والبصرة. لم يفكر يوماً بالفرقة الدينية ولا بالفرقة الطائفية والمذهبية، فكانت الطائفة والمذهب عنده هو الوطن وهو البصرة مدينة الثقافة ومدينة صالات السينما الأنيقة ومدينة البريكان ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير ومدينة الجاحظ والتراث والموسيقى ومدينة الإعلانات والمنافسة في مشاهدة الأفلام، حيث ينتظر الناس «تومان العبد» يعزف على الناي - الفيفرا ليتحدث عن الأفلام الجديدة في صالة سينما الرشيد.
زرته في بيته. كان متعباً حزيناً من هموم البصرة التي لم تعد فيها صالة سينما ولا مقهى يضم الأدباء والمثقفين يرشفون الشاي في ليالي البصرة على الكورنيش تحت ضوء القمر. سكون.. سكوت.. مولدات الكهرباء تضج في سماء البصرة والناس لا تسمع بعضها من كثر الضجيج وأسلاك الكهرباء مقطعة أو متداخلة فالناس تسرق الكهرباء سرقة مشروعة كي تضيء درباً أو تحرك نسمة هواء عبر المبردات والمراوح الكهربائية وإحسان لا يعرف كيف يسرق الكهرباء من الدولة عندما تنطفئ الكهرباء رسمياً ويبقى يتلوع في جو البصرة القائظ صيفاً, ولا أعرف وأنا الذي ترعبه الكهرباء ولا أفهم من أسرارها شيئاً وأخاف أن أبدل المصباح عندما ينتهي زمنها وينطفئ لا أعرف كيف يدرك الناس مسارات أسلاك الكهرباء وأسلاك الهاتف المتداخلة ويسرقون الكهرباء سرقة مشروعة. ذهبت إلى العراق ولم أعرف كيف أستدل على بيتي فكيف أستدل على بيت إحسان السامرائي كي أستعيد الذكريات وأرى جدران بيته التي وكأنها مبنية من الكتب وليس من الأسمنت، فتذكّرت رواية «آلام السيد معروف» للكاتب الراحل غائب طعمة فرمان عن ذلك الرجل الذي عاد إلى وطنه ولم يستدل على بيته.
هذا الإحسان السامرائي له حقوق في الدولة العراقية، حقوق قانونية، فهو لا يريد سرقة حقوقه كما سرقت الكهرباء من شوارع المدن، حقوق تتعلق بالفترة التي قضاها في السجن والتعذيب في سجون الدكتاتور، حيث اتهم بالتآمر على سلطة الدولة في زمن الحزب وأتهم بخيانته لمبادئ الحزب والثورة. اليوم يبحث عن حقوقه ولا يعرف كيف يحصل عليها مثلما يحصل المواطنين على حقوقهم المشروعة بطريقة السرقة من أعمدة كهرباء الدولة. فتدخل العراق وتنظر إلى سماء المدن فلا تجد سوى ملايين الأسلاك الكهربائية متداخلة مع بعضها في لوحة سوريالية تحتاج إلى مصورين بارعين كي يؤرّخوا هذه الحقبة الغرائبية من تاريخ العراق.
إحسان السامرائي يعيش حالة من الذهول والاستغراب. لا يعرف ماذا يعمل. لا يفهم كيف يذهب إلى مؤسسات الدولة وكيف يحدثهم. وعندما يجيبه الموظف محاولاً التخلص منه «تعال بعد شهر» يعود إلى بيته وينتظر شهراً، وهكذا مرت سنوات وهو يصدق كل ما يقول له موظفو الدولة وينتظر حقوقه وهو متعب عندما سألته لا يملك سوى جواب واحد «شسوي؟» أي بالعراقي «ماذا أفعل» قلت له أعطني رقم ملفك كي أستفسر عنه بنفسي فاكتشفت أن له حقوقاً يجب أن يأخذها بضرورة الاستثناء بسبب عامل العمر!
لقد خرج إلأديب والكاتب والمؤرّخ إحسان السامرائي من السجن مهدم الجسم والروح وعاد لا يقوى على ترتيب جدران بيته المبنية من الكتب والتي علاها الغبار وهو جالس وحده بينها وقد وضع على أحد الجدران صور أدباء البصرة وهم ساكتون كأنه وأياهم شهود عصر نذل وسافل!
* سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
sununu@ziggo.nl
البصرة