كان أبرز النقود الموجهة إلى النظرية الأدبية في الماركسية، ما اتجه إلى ملاحظة الانحياز المختبئ خلف دعوى الموضوعية في الانعكاس، تلك التي ترافق دعوى الالتزام بما يدفع التاريخ إلى التقدم، وتفضي إلى قسمة الانعكاس إلى صحيح وزائف. ولذلك فإن رؤية التاريخ والمجتمع على ما هما عليه -فيما نقرأ لدى لوكاش- ليس في دائرة الممكن إلا من منظور الواقعية الاشتراكية. ومبعث تفوقها هذا –لديه- هو ما يوفره المنظور الاشتراكي للكاتب، إذ يمكِّنه من أن يُقَدِّم وصفاً للإنسان من حيث هو كائن اجتماعي أشمل وأعمق مما تقدمه أية إيديولوجيا تقليدية. لكن القول بالواقعية الاشتراكية لم يستبد بمجمل الاتجاه النظري في الماركسية مثلما لم تكن نظرية الانعكاس لدى لوكاش هي أطروحة الاتجاه كله، فقد اتخذ الجدل بشأنهما ما بدت معه الواقعية اصطلاحاً قابلاً للتمدد والاتساع بحيث استوعبت ما ضاقت عنه عند لوكاش من الأدباء والفنانين.
وقد بدت مقولتي الانعكاس والالتزام -لدى ماركسي مثل الإنجليزي ريموند وليامز- نوعاً من التوحيد والدمج بين ما في الانعكاس من نظرة آلية ترى في الفن رد فعل سلبي منعكساً عن الأساس الاقتصادي، وما في الرومانسية من رؤية إلى الفن بوصفه إسقاطاً لعالم مثالي ودفعاً بالبشر إلى قيم جديدة. وهذا يشي بنقده لطوباوية الالتزام، لأنها تتخذ –من وجهته- هذا الوصف المثالي الرومانسي في معرض جمعه إياها مع ما يناقضها أي آلية الانعكاس وماديته. ولهذا كانت المناقشة لدور العقل من حيث هو تدخل خلَّاق في العالم وليس مجرد انعكاس له، وهو دور يلحظه لوكاش ويؤكِّده بوصفه علامة على الانعكاس الواقعي وليس الانعكاس الطبيعي، والانعكاس الواقعي –بحسب لوكاش- هو الانعكاس الصحيح أو الحقيقي، لأنه يجاوز تجليات الواقع ومظاهره السطحية إلى الطبيعة الداخلية والجوهرية له. لكن تيري إيجلتون يرى أن الإيمان بدور العقل والوعي هكذا لا يترك أي مجال للانعكاس، لأنه إذا كان العقل قادراً على النفاذ إلى المقولات الكامنة في التجربة الآنية فمن الواضح أن الوعي نشاط، أو ممارسة، تؤثِّر في هذه التجربة فتحوِّلها إلى حقيقة، وبذلك لا يبقى ما يبرر الحديث عن الانعكاس.
هذا الاستبصار المنبثق عن الالتفات إلى دور الوعي الخلَّاق، أخذ اتجاهاً بالتركيز على مفاعيله في تغيير صورة الواقع وتحويله وإعادة صياغته وليس الانعكاس له أو التشابه معه والمحاكاة له. ولذلك رأينا في المقالة السابقة الرؤية إلى الانفصال بين الواقع والفن لدى أدرنو وهوركهايمر، وموقف الاتساع بالواقعية لتنتظم بيكاسو وبيرس وكافكا عند جارودي، وموقف أرنست فيشر الذي يتشابه مع ما ذهب إليه تروتسكي من أن الخلق الفني «انحراف وتغيير للواقع وفق قوانين الفن الخاصة» وقول بيير ماشري «إن أثر الفن كامن في تشويه الواقع لا في محاكاته». وبوسعنا أن نكتشف تغيير صورة الواقع في الفن بوصفه أثراً لفعل الوعي الخلاق في تغريب الواقع ونزع مألوفيته والإسقاط عليه والترميز واستخدام الأقنعة والمجاز وغير ذلك من الأشكال التي تجسد فعلين متصلين ومتضافرين أحدهما يجسد الفاعلية الخلاقة للوعي والثاني يحول دون اللغة المباشرة والتقريرية. وهذه الأشكال هي موضع الوصف بالأدبية وسببه لا سواها.
ومعنى ذلك أن القول بالانعكاس مثل القول بالواقعية لا يفسِّر الأدب بقدر ما يصف وجهة مذهبية ووظيفية فيه. وقد نقول إن الوصل بين الأدب والسياق الاجتماعي مسألة ذات أهمية في استبصار وظيفة الأدب وتطوره، فقد كانت أطروحة الشكلانيَّين: ياكوبسون وتنيانوف عام 1928م منعطفاً لتجاوز ما بدا آلية ميكانيكية في أطروحات الشكلية الروسية الأولى خصوصاً عند شكلوفسكي الذي وصف الفن بأنه شكل أو على حد عنوان مقاله «تقنية». وذلك بالتفات ياكوبسون وتينيانوف إلى العلاقة بين النسقين الأدبي والتاريخي، فالتطور التاريخي للأدب مرتبط بما يؤثِّر فيه من تطور تاريخي، والتغيرات الاجتماعية أنتجت أشكالاً من الأدب، أو أدت إلى تسيُّدها، مثلما أدت إلى تضاؤل أخرى وتأخُّر مرتبتها. كما قد نقول إن الالتفات إلى مثل هذه العلاقة يبرز بكيفية أو بأخرى في سياق مثالي لا مادي مثل أطروحة هيبوليت تين عن تأثُّر الأدب بعوامل الجنس أو الخصائص القومية، والبيئة، واللحظة التاريخية. والقول بأن الأدب صورة للمجتمع عند مدام دي ستال التي تحدثت عن أثر القوانين والبيئة والتربية العامة، وربطت ذلك بالنظم السياسية الحاكمة لأنها –فيما تقول- مركز مصالح الناس، والأفكار والعادات تتبع تيار المصالح. والنشأة الحديثة لتاريخ الأدب في القرن التاسع عشر، بتأثير من اهتمام الرومانسية بتجلية فردية المؤلفين التي لا تنجلي دون اكتشاف حياتهم ذات الخصوص في البيئة والجنس والطبقة.
قد نقول ذلك ونضيف إليه أوجهاً نظرية أخرى جاوزت بالأدب الفردية من منظور اللغة التي تمثِّل كينونة مجتمع ممتد في المكان والزمان، وتبقى دوماً غير بريئة –بحسب حوارية باختين- لأنها ممتلئة بالآخرين. أو من جهة الوعي الجمعي واللاوعي، أو جهة القارئ الذي أصبحت النظرية الأدبية تلم بوجوده في ضمنية النص وشكله البنائي. فليس الأدب بناءً في الفراغ أو بناءً فردياً في عزلة تامة بل هو كيان ينشأ في أتون صراع وحوار ومصالح ومخاوف... الخ. فلنضف إلى ذلك –إذن- المذهبين الواقعية النقدية والطبيعية اللذين ظهرا في القرن التاسع عشر، ونتساءل عن مقدار الخصوصية التي امتلكتها نظرية الانعكاس الماركسية. إن الانعكاس ومعه الواقعية الاشتراكية يستعيران تصورات ومفاهيم نظرية سابقة ليحشدانها في اتجاه تصور طوباوي وعبر فلسفة معرفية وواقعية محدَّدة هي المادية الجدلية والتاريخية. وبالطبع فلم تكن الواقعية النقدية أو الطبيعية كما لم تكن الرومانسية بلا تصور طوباوي للواقع، لكنها –بخلاف الواقعية الاشتراكية- طوبى لا تحديد زمنياً لها في المستقبل ولا مثال مادياً لها محسوباً في ظروف محدَّدة. وأتصور أن امتلاك تحديد زمني للطوبى، هو مثل تحدُّد مثَلها الأعلى وماديته في نذير ضعف منتجها الأدبي وتشابهه. وبالفعل فلم تسجِّل الواقعية الاشتراكية حضوراً أدبياً عالمياً يضاهي حضور الواقعية النقدية، وعلى رأسها أمثال بلزاك وتولستوي اللذين تردَّدا لدى لوكاش مقترنين بإعجابه بهما.
ويقودنا ذلك إلى ضرورة اكتناه المعطى النظري في الواقعية النقدية من حيث هي تجل نظري وأدبي في فترة محددة، ومن حيث دلالة الواقعية إجمالاً. فالواقعية بسبب نسبتها إلى الواقع تثير إشكالاً في التعريف وذلك للاختلاف حول ما يمكن وصفه بالواقع أو الواقعي. فأمام القول بأن الواقع هو الأشياء كما هي على حقيقتها وليس كما نتخيَّلها أو نتمنَّاها، فإن الرؤية إلى هذا الواقع تختلف فالواقع اليقيني شيء والواقع المفهوم شيء آخر. وعلى سبيل المثال فإن الواقع اليقيني في خبر عن حادثة معينة يتطلب صدق الإخبار عن عدد الضحايا والأسماء والتواريخ بكامل التفاصيل. ولا مشكلة في ذلك، المشكلة في المعنى الذي يتضمنه الخبر وراء التفاصيل اليقينية. ولذلك يقول تودوروف: «الحقيقة هي الأفق الذي نتحرك تجاهه في النصوص لكننا لن نتمكن إطلاقاً من بلوغها بشكل نهائي». وقد كان ديستوفسكي مغرماً بالغريب والاستثنائي وغير راض عن الواقعية الطبيعية، وقال: «فهمي للواقع والواقعية يختلف تمام الاختلاف عن فهم واقعيينا ونقادنا لهما. ومثاليتي أكثر واقعية من واقعيتهم». ويمكن في ضوء ذلك أن ننظر –من وجهة أكثر اتساعاً- إلى النصوص الفانتازية وإلى رواية تيار الوعي والسريالية... الخ في صميم الواقعية، و»الواقعية السحرية» لدى ماركيز والروائيين في أمريكا اللاتينية مذهب في الاعتداد بواقعية الفانتازيا.
لكن الواقعية أدبياً مفهوم له خصائصه ورؤيته للواقع وللأدب في القرن التاسع عشر الميلادي. ذلك القرن الذي كان العلم من حيث صفته الموضوعية وغايته الكشفية عن العلل هو –فيما يصفها رينيه ويليك- مفهومها عن الواقع. وهي في هذا الموقع التاريخي في موقع الضد للرومانسية، ترفض الخيالية المجنحة والذاتية والإغراب، وترفض الأساطير وعالم الجن والأحلام والمصادفات والخوارق. ولا تقف عند المثالي والجميل والخيِّر، بل هي أقرب إلى رؤية الواقع في شروره ونكده، وأكثر اتساعاً للقبيح والوضيع والمحرم وصور الموت والفقر والخيانة والأنانية والخسة والنذالة... الخ. وأول خاصية فيها هي قيامها على ادعاء الموضوعية التي يمكن فهمها في ضوء تقابلها مع الرومانسية برفض الذاتية والمشاعر الشخصية، فالرواية الواقعية تقوم على غياب المؤلف عن روايته، أي انعدام مشاعره الشخصية وتدخُّله فيما يروي. وتأتي في هذا الصدد نموذجية فلوبير في روايته الشهيرة «مدام بوفاري» التي حوكم بسببها، فكان من ضمن دفاعه القول بأن هذا هو الواقع وعليكم أن تحاكموه. كما تأتي استعارة المرآة للدلالة على وظيفة الانعكاس الموضوعي للواقع في الأدب لكن بمعنى خارج الدلالة المادية الجدلية، وقد وصف ستاندال رواياته بأن كلاً منها «مرآة تسير في الطريق» وقال مبرِّئاً ذاته ممَّا تعكسه: «هل هو خطأ المرآة أن أناساً قبيحين قد مروا أمامها؟!». وقد غدت إحدى أبرز صفات الواقعية من هذه الوجهة «التاريخية» فهي من حيث موضوعيتها تتطلب المقارنات التاريخية وتقديم صور التغيُّر في المجتمع. وقد كانت هذه مواصفات روايات بلزاك الذي اقترن تعلمه من رائد الرواية التاريخية سكوت وتقليده له مع الحساب له -لدى عديد النقاد- في عداد أبرز نماذج الواقعية وأكثرهم تمثيلاً لها. ولا تنفصل الخاصيتين السابقتين عن إضمار الواقعية الرغبة في التعليم. وهذه خاصة تبدو مفارقة للموقف الموضوعي في الواقعية الذي يحرفه غرض التعليم عن الأمانة في تصوير الواقع. لكن الواقعية كانت تترامى من وراء تلك الموضوعية إلى النقد الاجتماعي والإصلاح وأخذ العظة وإثارة الشفقة و ا لتعاطف الإنسانيَّيْن وهذا هو مكمن خاصية التعليمية فيها.
أما الموضوعية فإن دلالتها على العلاقة بين العمل الأدبي ومَرْجعه من زاوية الصدق والحقيقة، تثير إشكالاً في معرفتنا بالأدب. فإذا كان من الواجب على الرواية أن تتصف بالصدق فكيف نفرق بينها وبين التاريخ. ولئن قال العرب القدامى «أعذب الشعر أكذبه» فإن تودوروف يروي عن هُويت نسبته أصل الرواية إلى العرب الذين اعتبرهم جنساً موهوباً في الكذب. وهو بذلك يعقد وجه تشابه بين الرواية والكذب، لكن لا ليصف الرواية بالكذب وإنما ليدحض منطقية التساؤل عن الصدق والكذب فيها، لأنها تستعصي على الامتحان بهذين المقياسين الواقعيين. والبديل لهما هو قياس الممكن الواقعي من غير الممكن، والممكن الواقعي في الشعر –عند أرسطو- ليس علاقة بين الخطاب ومرجعه، وإنما علاقة بين الخطاب وما يعتقد القراء أنه صحيح، وهذه العلاقة –بحسب تودورف- علاقة بين العمل وبين خطاب مبثوث يمتلكه الرأي العام، والرأي العام ليس «الواقع» وإنما خطاب ثالث مستقل عن العمل وعن الواقع. وإذا نظرنا إلى غياب المؤلِّف برفض تدخله أو الإبانة عن مشاعره من حيث هو شرط الموضوعية والإيهام بالوقع في الواقعية، فإن لنا أن نقول بعكس ذلك، فظهور المؤلف يمكن أن يكون تأكيداً للإيهام بالواقع. وقد وصف رينيه ويليك بعض المحاولات المتطرفة لتغييب المؤلف بكتابة الرواية –كما في بعض روايات هنري جمس- في حوار يكاد يستغرقها كلها، بأن ذلك لم يؤد إلى زيادة واقعيتها أي تصويرها الأمين للواقع. ويقول برنكمان: «التجربة الذاتية هي التجربة الوحيدة التي يمكن وصفها بالموضوعية» ولذلك كان أسلوب تيار الوعي مثاله على بالواقعية. والمعنى الذي نصل إليه من ذلك هو أن الموضوعية لا تتحقق عملياً في الأدب بالمعنى الاصطلاحي لها، ويترتب على ذلك أن الخصائص التي اجتمعت عليها الواقعية النقدية في ضوء مناخ تاريخي معين ليست جماع طرق الأدب وأشكاله كلها، إنها مثل الواقعية الاشتراكية رهينة مذهبية محددة. لكن الأطروحات النظرية الواقعية والماركسية لم تقف عند حدود الانعكاس أو الدعاية لمذهبية أدبية بخصائص معينة، بل مضت إلى أطوار جديدة. يمكن أن نرصدها في اتجاهين بارزين: الأول البنيوية التوليدية، التي نهض بها لوسيان جولدمان وهو تلميذ لوكاش، ومعه لوي ألتوسير وبيير ماشري، وهي وجهة تجمع بين البنيوية والماركسية من حيث تشابههما في مجاوزة الفردية إلى العلاقات والأنساق، بحيث يلتقيان في التسليم بأن الفرد لا يمكن فهمه خارج وجوده الاجتماعي، مثلما لا يمكن فهم الكلمة من دون اندراجها في علاقات نصية. والاتجاه الثاني اتجاه الدراسات الثقافية لدى كريستوفر كودويل وريموند ويليامز وغيرهما، وهو اتجاه ينظر إلى النظام الاجتماعي بواسطة الثقافة، فالإنتاج الثقافي ليس فقط مشتقا من نظام اجتماعي بل عنصر في تكوينه. وهذه وجهة تغتني في سياق ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة خصوصاً بإضافات إدورد سعيد وهانز روبرت ياوس وتيري إيجلتون وفريدريك جيمسون... الخ ولهذا فسيكون الحديث عن هذه التطورات في مواضعها إن شاء الله.
الرياض