بين الفرح وبيوتنا مسافة طويلة جداً من الكذب. لن يقطع الفرح طريقه إلينا إلا بالصدق مع النفس؛ ذلك لأننا أكثر ما نقترفه في بيوتنا هو الكذب على أنفسنا. ولأن تاريخنا في الكذب طويل أيضاً فإنه لم يعد فينا من يعترف به.
هل يمكن للأم الثلاثينية التي تحتفل بمولودها الأول أن تعترف بأنها تكذب بشأن هذا الفرح الأمومي! وأن غصة خفية في رحمها تبكي الرجل الذي تحب ولم يبث فيها من روحه؟ هل يعترف الرجل في الخمسين من عمره بأن فرحته بنجاح أبنائه مجرد كذبة، وأنهم في حقيقة الأمر لم يطفئوا حسرته منذ ثلاثين عاماً عندما قرر والده ألا يكمل تعليمه، ويلحق بعمله مقاولاً آلياً، لا يعرف من البيت إلا الأسمنت والرصاص، ولا يعرف من حاجات الإنسان إلا حاجته للمال؟!
هل تعترف الأنثى الستينية بأن الفرح الذي يغمر وجهها كلما بُثّ لها خبر حفيد جديد هو مجرد فرح روتيني، يكسر روتين أيامها في البيت، ويمنحها فسحة المناوبة في المستشفى واستقبال الضيوف ليس إلا؟! في بيوتنا لن يقول لنا الرجل في عقده الثالث إن زواجه لم يكن فرحاً خالصاً بل كان قراراً بالحداد الأبيض على ضياع حبيبته. لن تقول لنا الطفلة ابنة الثامنة عشرة إن تفوقها العلمي ليس فرح الجهد والمثابرة، بل نفس عميق لضياع الحلم برحلة إلى سماء أكثر ارتفاعاً من سقف كليات الرئاسة وساحات جامعة نورة الشاسعة..
في بيوتنا لا يقول المراهق في الخامسة عشرة إن فرحه بفوز فريقه مجرد كذبة تحفظ له سمعته بوصفه شاباً سعودياً؛ لأنه في الحقيقة يكره الكرة، ولا يحب إلا حضن صديقه. في بيوتنا لم تقل الطفلة إن ألعابها الجديدة فرح صغير أكبر من فرح أختها التي بيعت بمهر 100 ألف، وعلقت كوردة مجففة في جيب شيخ القبيلة. وفي بيوتنا كلنا في الابتلاء كاذبون، فلا عداد الحسنات يشعل فرحنا، ولا وعود الجنات تطفئ ألمناز في بيوتنا ليس هنالك امرأة تصدق في شأن فرحها، وما هنالك رجل إلا وقد نسي معنى الفرح. هنالك أطفال وبنات وصبية يعرفون الكثير من الصراخ والضحك واللعب، لكنهم قليلاً جداً ما يعرفون تلك اللحظة المقدسة (لحظة الفرح).
هذه المسافة من الكذب مسافة طويلة جداً، أطول من أشجار العائلة التي لا تسعها بيوتنا، وأقسى من اليُتْم والفقر والمرض مجتمعين. هذه المسافة ليست صراطاً يتأرجح، يمكن أن يقع بنا في جهنم، ويقطعنا عن حلم الجنة، إنها أقل قليلاً من ذلك، إنها مسافة محايدة جداً، ليست مدرجاً سماوياً، وليست منزلة بين اثنتين، بل منزلة وحيدة، لا يعرفها أحد.. سوى أهل هذا البلد.
إنها كذبة تشبه الحقوق التي تلعق سم الموت باسم مجد الأمة، تشبه الإيمان الذي يلعن النحل ويبارك العسل، إنه كذبة لا أكثر ولا أقل.
الرياض