د/ عبدالعزيز محيي الدين خوجة
621 صفحة من القطع المتوسط
من الأبناء إلى الآباء إلى روح النضال والفداء من أجل الحرية والإنسانية.. لنستمع إليه في صرخته الحزينة:
قهر لهذا النخل أن يهوي انحناء وامتثالاً للرياح
قهر لهذا النصل في الغمد المغيب لا يرد على الجراح
قهر على خيل المروءة في المرابط لا يشرفها الكفاح
قهر على صوت البلابل ناب عن تغريده صخب النباح
ءقهر في قهر في قهر.. من يتحمل كل هذه الصرخة (دون صدى) ان الوجع يا عزيزي حين يسكن.. ويستوطن ولا يستفز!
جرحي تفتح وارتوت منه المنايا في أهازيج الرياح
لم تعد حكاية نخيل ولا نخل ولا خيل ولا رماح نواجه به خصومنا. وأنه أكبر شراسة وخشية من خصومنا ومن أنفسنا.. حكاية صواريخ وقنابل وطائرات عربية تحصد أرواحاً عربية لا ذنب لها ولا جرم نشهدها على قرب منها في سوريا والعراق في السودان والصومال.. في باكستان وأفغانستان المناضل فيها متهم بالإرهاب والقاتل فيها موصوف بالبطولة..
اختار استراحة مرفأ وقد ضاق بما لا يهوى:
في شاطئ الخمسين قد طوّيت حلم شراعي
لما وجدت مراكبي منهوكة الأضلاع
كم خضت من بحر وأزرت بالرياح قلاعي
بحر الهوى يوماً دربي وضاعت في المدى أطماعي
يهون ضياع الهوى أم ضياع الأرواح سهام الحب أهون وأرحم من سهام الحرب والطغيان للإنسان..
أبدلنا سراجها لا سهامها.. وأكوان لا طغيان في مقطوعته (سراج الأكوان):
يا بلادي تلفت الثقلان
كبّر المجد فوق هام الزمان
وارتدى الأفق هيئة من ينا
ديني هلموا هذا السنا عنواني
فأنا في ذرا المجرات نور
وسراج لمجمل الأكوان
هاهنا قبلة الورى في شعابي
والأماني في ظلها الفينان
مشعل الحق والهدى في يميني
واستضاءت بالمصطفى أركاني
إضاءات وطنية إيمانية إنسانية باح بها حباً لترابه وتراثه وتاريخه.. ومقدساته وأهله..
هاهو الوحي من أعالي الأعالي
هاهو النور قد سرى للعيان
من بقاع هي الهوى لبقاع
هي عند الإله أغلى مكان
يسترجع في قصيدته الطويلة مشاهد وشواهد إيمانية.. لمكة والمدينة والوحي والغار وقعة سراقة وواقعة بدر، والصحابة المهاجرين والأنصار.. كيف بزغ الإسلام.. واستقر السلام بدعوة رسول السلام ويختتمها بهذا البيت:
جئت والعز اخوة في المعالي
وأنا والنهى معا صاحبان
ومن نور الإيمان إلى نور الوجدان وقد حضر:
يا لفتة الظبى تغويني إلى الحرم
تحلو له فتنتني في الحل والحرم
إن قلت لا نال مني بالقلى فمه
وإن ألبي كفيت الإثم بوح فمي
فأكتم العشق في غور الضلوع أسى
والنار ترصده ناراً على علم
ويتساءل في حيرة:
هل غادر الحيَّ حتى خلته عدما
من سوف يحيى خواء الروح من عدم؟
أم ضاع عمري على حب بلا أمل
حتى ذراه امتناع النفس من ضرم؟
تجلياته النورانية عادت من جديد تبث أشواقها وأشواكها كزاد لابد منه في شعر الشعراء المفتونين بأخيلتهم المجنحة حتى وهو في مرحلة ضعف:
فالنفس تضعف إن جار الزمان بها
رحماك رباه ساعدني على اللُّجم
والنفس تصبو فتستشفي وتمخر في
بحر الهوى دونما خوف من التهم
مفردة (التهم) جائزة إلا أن (النهم) أقرب إلى المعنى لأن نهم إشباع وإمتاع من غذاء الروح.
وقف أمام باب الهدى مبتهلاً خاشعاً ملؤه اليقين والإيمان:
سألت القلب حين بكى وتابا
واشرعتي تهم بي اغترابا
وذكرى الأمس تحفزني لعودٍ
فتغريني وتسألني الإيابا
تراك جفوت حبا جاء غبا
يساورك الملامة والعتابا
تذكرت وأنا أقرأ أبيات قصيدة شوقي سلوا قلبي غداة سلا وثاباً نفس الإيقاع.. وربما نفس الموقع..
سمعت نحيب قلبي في ضلوعي
يحاورني فلم أعر الجوابا
وما عهدي بقلبي وهو يبكي
وقد قطف المنى دوما غلابا
كل هذا مدخل وجدان لنزل إيمان..
وما هو بالغرام يذيب قلبي
ولا خودا عشقت ولا كعابا
ولكني.. وذنبي قد دهاني
أهيم بعثرتي أرجو المتابا
الثوابا يا عزيزي أنسب من المتاب:
وهل لي غير باب الله باب
لأطرقه فيفتحه متابا
يلوي إلى المصطفى ودعوته ورسالته السمحة.. إلى مكة وشعابها.. إلى جبل حراء.. وإلى جبريل وينهي قصيدته الجميلة بهذين البيتين:
رسول الله أثقلني عذابي
وهل كالذنب يجتلب العذابا
شربت الحزن كأساً بعد كأس
واترعني الهوى في الشهد صابا
من خبايا الوجد.. عنوان جديد أجتزئ منه بعض الأبيات:
تتزاحم كل الأبحر حبراً مداد ودواة
يرتعد المعنى تتوتر ترتعش الكلمات
يتصاغر كل الشعر أمامك تحترق الأبيات
حشد من العبارات وربما العبرات لمن يوجهها فارس رحلتنا المشحون بمعاناته ومعانيه؟! أوردها كاملة الأوصاف لجمالها:
يا أغلى حب في عمري تعزفه الخفقات
فينير الباطن والظاهر والمكنونات
ولسان حاله يردد ما قاله الشاعر الإبداعي: وهو العاشق الذي امتزج حزنه بفرحه.. وهو يتطلع إلى حلم مجهول..
أبكي وأضحك لا حزناً ولا فرحاً
كعاشق خط سطراً للهوى ومحا
وأحاذر لا انفث في ذكرك بعض الآهات
كي لا تنصب لي مشنقة في الطرقات
كي لا تعقد محكمة لي زوراً تخترق النيات
وأزورك أختلس الخطو تلاحقني الهمسات
لم يكن أبداً خشيته من الخلق.. همه كل همه من خالقه الذي يعلم السر وما أحوى هكذا كان مشدوداً إلى محراب الإيمان يتبتل.. ويناجي وعلى مآقيه دمعة خشوع وخضوع أمام جلال الموقف. لنستمع إليه من جديد:
قد قالوا الشعر لمجدك تنكره الآيات!
أنكروا عليه حتى دعاءه لأنهم الأدعياء أما هو فكان يملك يقين التقوى:
ويقيني أن الحب لوجهك قربى وصلاة
ذلك أنك هديي كي أرقى أسمى الدرجات
أحبذ كلمة الهادي.. عوضاً عن (هديي)..
ينهي شاعرنا الإيماني قصيدة المسكونة بكل أدبيات المناجاة:
وحياتي من غير ضيائك ليست بحياة
ودروبي في غير سراجك داجية الظلمات
إن (القسم) هذه المرة وأمام محراب التوسل والتبتل:
قسماً برب البيت في هذا البلد
قسماً.. وما أدراك ما هذا البلد
قسماً بخالق مجده
في قرية أحيا المنى
في بعده ألقى الكمد
يلتفت إلى المصلين الخاشعين من حوله كانوا يشاركونه نفس الدعاء:
الخاشعين الراكعين ومن سجد
وهنا المآثر كلها تتلو على
الأكوان مجداً لا يُعد ولا يُحد
قسماً برب محمد مختاره
ما مثله أحد.. ولا يأتي أحد..
والوصية من أب رؤوم إلى ابن شب عن الطوق في حاجة إلى نصيحة تدله سبل الخير ومسالك الفضيلة هو في أمس الحاجة إليها ومن في مثل عمره:
جئت يا قرة عيني مثلما الحصن المباح
لم يزل قلبك يدمي من تباريح الجراح
لم يزل ليلك يدجي.. كيف ضيعت الصباح
لم تزل راياتك العذراء نهبى للرياح
(نهبي) الصحيح نهباً
لم تزل طيرك لا تقوى على خبط الجناح
استأذن عزيزي في أن يأتي هذا البيت على النحو التالي:
لم يزل طيرك لا يقوى على فرد الجناح
يحدد لفلذة كبده معالم وعوالم تشده إلى وهنه.. إلى دينه.. وإلى دنياه..
لو ترى يا ولدي الأقمار جذلى فوق هامات النخيل
أو تراها في سماوات الأماسي ترسم الحلم الجميل
لو تراها (القبة الخضراء) تجتاز الطباق
كل ما في الكون يبدو في اشتياق وعناق
وإذا جئتَ الحِمى قف وانتظر إذن المثول
وتأدب ولدي في حضرة الهادي الرسول
ويمضي في وصيته.. أي في نصيحته إلى أقرب الناس إلى قلبه.. لأنه الأحرص.. والأقدر على تقويمه وتقييمه:
ثم حلق في جنان الخلد روحاً مستهامه
إن روضا فيه طه جنة فاضت سلامه
فاسرحي يا نفس فيها نجم تيه أو يمامه
واهد لي أنات عشق في اختلاجات الحمامه
واستفيقي يا طيوراً هجرت ليل المنامة ..
ظلِّلي ذكراه بي زلفى كأنفاس الغمامة
يحسن أن يأتي بيت الشعر الأخير كالتالي كي يستقيم:
ظللا ذكراه زلفى مثل أنفاس الغمامة
ومن طيبة الطيبة يأخذنا إلى مكة المشرفة موجهاً نصيحته إلى ابنه:
هذه مكة لو شئت تلمس نوره في غارها
تبصر الحق بهي الطلع في أحجارها
صفوة الله اكتمال الخلق من أسرارها
غير ذي زرع.. وكل الأرض من أزهارها
بذرت أكبادها في الله من أثمارها
وينهي وصيته بهذين البيتين:
واعتصم بالعروة الوثقى سلاحاً من ذنوب
ذلك الذي ينجيك من عمى القلوب
وبعد: عزيزي عبد العزيز خوجة وأنا أقرأ وجدانيات ديوانك الكبير (رحلة البدء والمنتهى) استعدت في ذهني قصة دعاء الكروان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وكروانه وهو يرجع لحونه شجواً وشكوى.. وكأنما كروانك أنت يستعيد ترجيعه لنفس المشهد البكائي.. وبنفس النغم الحزين بمذاقه اللذيذ وهو يبحث عن حب رومانسي لا مكان له إلا في خيال الشعراء يبحثون عنه واقعاً فما يجدون.. وما يلقون بالعذاب والعتاب.. والآهات والتنهدات التي لا تنتهي.. ولقد قرأتك ولقيتك عبر ديوانك إضافة شعرية ثقافية ثرة لشعرنا العربي المعاصر.. في شعرك.. وفي شاعرك الكثير من فألك.. والكثير من خوفك.. ولا فأل بدون خشية.. ولا خوف من دون حذر.. أخيراً العذر لكروان شعرك وقد أجهدني متابعة.. وأجهدته ملاحقة.. واحدة بواحدة.. أما أنت فخارج دائرة الشكوى وإنما داخل دائرة الشكر والتقدير شاعراً إيمانياً ووجدانياً وإنسانياً.
* * *
تنويه
تعتذر الثقافية عن ورود عدد من الأخطاء التصحيفية في أبيات الديوان الذي يدرسه الأستاذ البواردي فله وللدكتور الشاعر عبدالعزيز خوجة العتبى.
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 ـ فاكس 2053338