حينما كنت أقرأ رواية «بائع الحلوى» للروائي الهندي الشهير آر. كي. نارايان، والصادرة عن مشروع كلمة للترجمة بدبي، لا أدري لماذا تذكرت حال المبتعثين السعوديين الذي يدرسون الآن في الخارج، وعلاقاتهم بالمجتمع بعد عودتهم من الدراسة؟. إنها مسألة معقدة جدا بكل تأكيد.
ربما؛ لأن الكاتب استطاع أن يرسم حالة هؤلاء المبتعثين بشكل جيد وهو لا يعلم عنهم شيئا، وربما هو لا يعرف بأن هناك دولة اسمها المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت، لأنه نشر هذه الرواية في وقت سابق جدا، في وقت لم تفكر فيه الدولة أصلا بابتعاث الطلاب للدراسة في الخارج، لكن هو الفن: دائما ما يقفز فوق سياقات الزمن، ويتجاوز كل شيء، ويبقى حاضرا في كل وقت، فهو الآلة الوحيدة التي لا تموت، وتصبح صالحة لكل زمان ومكان.
تحكي الرواية قصة رجل هندي يبيع الحلوى، هكذا بكل بساطة تقول فكرة العمل، لكن في ثنايا النص كثيرا من التقاطعات بيننا كسعوديين وبين الشعب الهندي في ذلك الوقت، فالهنود مهووسون مثلنا بالعادات والتقاليد التي ربما تقف عائقا أمام تقدمهم في الحياة، فأنت حين تقرأ هذه الرواية وتجد التفاصيل الدقيقة في حياة الإنسان الهندي، ومدى تعلقه بإرثه وعاداته وتقاليده، وربما فهمه للدين أحيانا، تشعر بأنك تقرأ تفاصيل الإنسان السعودي، تجاه عاداته، وفهمه للدين، فالإنسان السعودي البسيط هو هندي كتبه آر. كي. نارايان قبل أكثر من خمسة عقود، فالحياة التي تتعلق بالماضي هي السائدة في المجتمع الهندي كما هي سائدة هنا، وكذلك تعلقه بالآلهة والرموز الدينية، وتلك اللكنة الحكيمة التي يملكها كبار السن من الهنود، هي نفسها التي يملكها المسنون هنا، وعلاقة الأسرة ببعضها البعض، والتماسك والفروض الأسرية، وطقوس الأفراح، وكل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية التي يرافقها الكثير من الأطر التي تحد من حرية الإنسان في مواقف كثيرة.
وربما يتساءل أحدهم: ماذا عن المبتعثين إذن؟، المبتعثون يمثلون ابن بطل الرواية جاجان، ذلك الشاب الذي يحمل اسم «مولي»، فمولي هذا مولع بالتغيير، يقفز دائما فوق السائد والمكرور في الثقافة التي تربى عليها، فهو حين ذهب إلى أمريكا لدراسة الكتابة الإبداعية عاد إنسانا مختلفا جدا، يعترض دائما على كل ما يراه في مجتمعه الهندي الذي ولد فيه، وتربى فيه ردحا كبيرا من الزمن، ليتبادر إلى ذهنك سؤال كبير: هل السنوات القليلة التي ربما يقضيها الإنسان خارج وطنه، ستؤثر حتما على كل السنين التي قضاها وتربى منها داخل الوطن؟، هذا السؤال الكبير نستطيع أن نختزله في إجابة بسيطة جدا بأن نقول: نعم ستؤثر، إذا كان ما تربى عليه الإنسان في وطنه يقف حاجزا تجاه حريته وطموحه، ورغبته في أن يعيش الحياة كما يريد.
فربما هذا ما يقع فيه الكثير من المبتعثين حين يعودون وهم يحملون أفكارا تتصادم مع كثير من الأفكار السائدة في المجتمع، تلك التي تربوا عليها فترة طويلة من الزمن، لأنها تقف ضد طموحاتهم، تقف ضد ما يريدون أن يعيشوه في هذا الزمن الذي يدفعهم للانطلاق.
الرواية بكل بساطة كيف يحاول هذا البطل «جاجان» أن يوائم بين ما عاشه فترة طويلة من الزمن في تلك المدينة الصغيرة التي أطلق عليها الروائي اسم «مالجودي»، وبين علاقته بابنه الوحيد الذي جاءه بعد عشر سنوات من الزواج، هذا الابن المفرط الدلال الذي غيّرته أمريكا، ووهبته أفكارا لم يكن ليكتسبها لو لم يذهب لأمريكا.
إن الرواية لا تحكي المجتمع الهندي أبدا، إنها تحكي مجتمعنا بشكل دقيق جدا، رغم أن المكان الذي حدثت فيه هو مدينة هندية صغيرة، تحكي مجتمعنا بكل تفاصيله، بكل معوقاته، بكل تأزماته، وما يشوبه من علاقات إنسانية معقدة في كثير من الأحيان.
رغم هذا كله، كان الروائي حكيما في شخصية «جاجان» حينما وهبه حبا للمهاتما غاندي، وفيلسوفا حين يتعلق الأمر بالدين والإله، إن الرواية مزيج من العلاقات الاجتماعية المعقدة والمؤطرة بإطار من نار من العادات والتقاليد، ومن الفلسفة العميقة في الدين والطب، والعلاقات الإنسانية البسيطة التي ربما تدور بين رجل أعمال ومتسول، تستطيع حين تنتهي من هذه الرواية أن تقول: إن هذه الرواية، «رواية الإنسان بكل ما يحمل من تناقضات».
روائي سعودي
Alwan_mohd@hotmail.com
تبوك