هنا مقال نقدي ناري ضد فيلم «اغتيال ابن لادن» («زيرو دارك ثيرتي» أي «ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل») وهو بقلم الصحافي الأمريكي ستيف كول الخبير بتنظيم القاعدة ومؤلف الكتاب المرجعي الشهير عنها «حروب الأشباح: التاريخ السري لسي آي إيه، أفغانستان وابن لادن منذ الغزو السوفيتي حتى 10 سبتمبر 2001» وهو المقال الذي نشره في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بتاريخ 7 فبراير 2013 ودشن به الحملة الصحيفة ضد فيلم «اغتيال ابن لادن» («زيرو دارك ثيرتي») وهي الحملة التي نجحت في منع فوز هذا الفيلم بجائزة أوسكار كـ «أفضل فيلم» رغم كونه فيلما مثيرا للغاية ولكن ستيف كول ركز على كون الفيلم يتغاضى بل يبرر عمليات التعذيب الرسمي وهو ما ينتهك ما يسمى بـ «المبادئ الأخلاقية الدستورية الأمريكية» التي تمنع تحقير وإذلال البشر مهما كانت المبررات، بحسب فهم كول طبعا!!! ومن المعروف أن مخرجة الفيلم هي كاثرين بيغلو وكاتب السيناريو هو مارك بوال، وهذا ثاني تعاون بينهما بعد نجاحهما في فيلم «خزانة الألم» The Hurt Locker، وهو الذي جعل بيغلو أول امرأة تفوز بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج في عام 2009، وفاز أيضا بجائزة أوسكار لأفضل فيلم. ولكن ذلك النجاح لم يتحقق مع «زيرو دارك ثيرتي» كما توقع ستيف كول هنا أي قبل إعلان نتائج الأوسكار بثلاثة أسابيع وسوف نرى لماذا وكيف فقد الفيلم حظوظه رغم أن دخله من شباك التذاكر (105 مليون دولار) تجاوز ضعفي ميزانية الفيلم (40 مليون دولار).
«زيرو دارك ثيرتي» فيلم مقلق ومضلل
ليس من غير المألوف لصانعي الأفلام محاولة خلق أصالة لأفلامهم عبر استعمال كليشة شهيرة تظهر على الشاشة مثل «مبني على أحداث حقيقية» Based On Real Events. ومع ذلك، فإن «العبارة» التي اختارها صناع فيلم «زيرو دارك ثيرتي»Zero Dark Thirty )أي «ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل»( في تقديم فيلمهم عن الأحداث التي أدت إلى قتل من أسامة بن لادن هي عبارة صحفية بامتياز: «مبني على تقارير مباشرة للأحداث الفعلية» وبينما تتلاشى تلك الكلمات من الشاشة تظهر عبارة «11 سبتمبر 2001» على شاشة سوداء ونسمع أصوات مكالمات طوارئ حقيقية من ضحايا هجوم تنظيم القاعدة على مركز التجارة العالمي. تصف واحدة من المتصلين النيران التي تنتشر حولها وتقول إنها «بدأت تحترق»، وتستنجد بمن ينقذها من الموت ومن ثم يتلاشى صوتها. وقبل أن يتكلم أي ممثل بكلام درامي (من السيناريو المتخيل)، يصنع «زيرو دارك ثيرتي» خيارين: ينحاز لأسلوب مماثل لأساليب الصحفيين والمؤرخين، ويترك للدراما ما تبقى لرواية كيف حدثت أعظم صدمة غير مفهومة في الحياة الوطنية الأمريكية خلال العقود القليلة الماضية.
منذ بدأ عرض «زيرو دارك ثيرتي» في نيويورك ولوس أنجلوس في ديسمبر الماضي (يفتتح في كافة أمريكا بتاريخ 11 يناير 2013)، أثار ردود فعل منقسمة. احتفى بعض النقاد به لسرعة وتيرته وشموله التاريخي، والوصف التصويري الآسر والمعقد للعنف السياسي. واختارته «دائرة نيويورك لنقاد الفيلم» كأفضل فيلم لعام 2012، ورشح لخمس جوائز أوسكار، بما في ذلك جائزة «أفضل فيلم» المهمة التي خسرها بجدارة لصالح فيلم «آرجو». السمات التي أعجبت بعض النقاد في الفيلم مماثلة لفيلم «خزانة الألم» The Hurt Locker ، وهو التعاون السابق للمخرجة كاثرين بيغلو مع نفس كاتب السيناريو مارك بوال – عن فرقة تفكيك متفجرات أمريكية في العراق - وهو الفيلم الذي جعل بيغلو أول امرأة تفوز بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج في عام 2009، وفاز أيضا بجائزة أوسكار لأفضل فيلم.
ولكن في نفس الوقت، شجب عدد من الصحفيين والسياسيين، بما في ذلك ثلاثة سيناتورات من كونغرس الولايات المتحدة فيلم «زيرو دارك ثيرتي». شكواهم الرئيسية هي أن الفيلم يضخم إلى حد كبير الدور الذي لعبه التعذيب (أو ما يسمى بـ «تقنيات الاستجواب المطورة» بلغة «سي آي إيه» المرعبة) في انتزاع المعلومات من المعتقلين من تنظيم القاعدة والتي أدت في نهاية المطاف إلى اكتشاف مخبأ أسامة بن لادن في أبوت أباد، باكستان، وبالتالي قتله على يد فرقة من قوات البحرية الخاصة (سيلزSEALS ) في 2 مايو 2011.
وكتب مايكل موريل، مدير «سي آي إيه» بالنيابة (وكالة المخابرات المركزية) ، مذكرة وزعت على جميع موظفي الوكالة في ديسمبر قال فيها: إن «الفيلم يخلق انطباعا قويا أن «تقنيات الاستجواب المطورة» كانت هي المفتاح للعثور على ابن لادن». وأضاف موريل: «ولكن هذا الانطباع غير صحيح». وكتبت السيناتور ديان فاينشتاين (ديمقراطية) رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ ومعها عضوين بارزين في لجنة القوات المسلحة، الديمقراطي كارل ليفين والجمهوري جون ماكين، ب يانا موجه للشركة المنتجة للفيلم يصف أحداث الفيلم التي تصور تاريخ مكافحة الإرهاب الحديث في أمريكا بأنها «غير دقيقة بصورة صارخة وفظة». وقال هؤلاء السيناتورات الثلاثة إن عيوب وخطايا الفيلم تخلق إمكانية يمكنها «تشكيل الرأي العام الأمريكي بطريقة مقلقة ومضللة».
وكان كاتب السيناريو مارك بوال ، وهو صحافي حربي سابق، قد أجرى مقابلات مع ضباط «سي آي إيه»، والجيش، وبعض المسؤولين في البيت الأبيض بينما كان يستعد لكتابة «زيرو دارك ثيرتي». وقيل إن إدارة أوباما وقادة «سي آي إية» قد أذنوا باجراء بعض هذه المقابلات، وذلك على ما يبدو لاعتقادهم بأن الجمهور سوف يقدر الفيلم الذي سينتج. وقال بوال إنه أجرى تحقيقات وتحريات صحفية أخرى بنفسه. وقدم بوال وبيغلو ردين رئيسين للانتقادات التي واجهتهم. الأول هو أنه عندما يضغط صانعو فيلم التاريخ المعقد في سرد سينمائي، ينبغي منحهم درجة كافية من الحرية الفنية.
بالطبع هذا أمر بدهي وغير قابل للنقاش، ومع هذا لا يمكن لصناع الفيلم، من جهة، ادعاء أصالة أحداث الفيلم (أي كونها تعتمد على تقارير حقيقية) كما يفعل الصحفيون بينما، من جهة أخرى، يستعملون الفن الروائي الخيالي كذريعة لتصوير ونقاش رديء ومبهم لموضوع هام ومحوري مثل دور التعذيبTorture في العثور على ثم اغتيال ابن لادن، وبالتالي قد يستنتج البعض أنه أمر ضروري ومبرر بصفته سياسة رسمية للدولة ضد الإرهاب (أي مواجهة الإرهاب بالإرهاب). لقد كان بوال وبيغلو – وليس نقادهما – هما من بادرا بالترويج للفيلم كنوع من الصحافة. لقد وصفت بيغلو «زيرو دارك ثيرتي» في البداية بأنه «فيلم مبني على تقارير صحفية». وقال بوال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز قبل بروز الجدل، «لا أريد أن أكتب التاريخ بطريقة الأكلات السريعة (فاست فود)».
وقال بوال إنه يعتقد أن السيناريو الذي كتبه يعرض ولا يبرر «الإشكالية المعقدة للغاية بشأن التعذيب» لأنه يظهر بعض السجناء يعطون معلومات بالإكراه، بينما ينافق المسؤولون مدعين الاستقامة. لا يوجد أي سبب للشك في أن بوال وبيغلو قصدا تصوير دور التعذيب في البحث عن ابن لادن بشكل غامض. كان فيلم «خزانة الألم» The Hurt Locker قليل التعقيد ويعتمد على الحركة (الأكشن)، وليس التوضيح التعليمي. ومع هذا قدمت قصة فيلم «خزانة الألم» صورة مصغرة لحرب بدون معالجة الموضوع الأهم وهو صواب أو عدم صواب قرار غزو العراق المأساوي، ولذلك لم يكن هناك سبب يجعل المشاهد يقارن خيارات ذلك الفيلم مع سجل الوقائع التاريخية الصحيحة المدونة صحفيا.
«زيرو دارك ثيرتي» شكله معكوس: إنه ملحمة تاريخية يحاول صناع الفيلم وضعها في كبسولة مصغرة تحكي قصة مطاردة ابن لادن التي دامت عقدا من الزمن، والتي شارك فيها مئات من ضباط «سي آي إية» والعسكريين، ولكن في المقام الأول من خلال خبرة محللة «سي آي إيه» واحدة اسمها «مايا»، والتي لعبت دورها جيسيكا تشاستين، وهي موظفة «سي آي إية» حقيقية التقاها بوال، حسبما قيل. ولكن في الفيلم، تم عرض قصة مايا الشخصية وسعيها لمطاردة ابن لادن وهي قصة شيقة ومقنعة، جنبا إلى جنب وبخلفية لأحداث خارجية متفجرة، مثل الهجوم الإرهابي في لندن يوم 7 يوليو 2005، وتفجير فندق ماريوت في إسلام أباد، باكستان، في عام 2008 (وتلك محاولة غير مباشرة لتبرير عرض التعذيب في الفيلم). وبقدر ادعاءات صناع الفيلم التزام «أسلوب صحفي»، فإن المقاربة التي اعتمدها هذا السيناريو، أي استدعاء أحداث عامة دراماتيكية حديثة، من شأنها أن تدعو المشاهد إلى التساؤل عن موثوقية الفيلم.
المشكلة الأولى في تقييم أمانة عرض «زيرو دارك ثيرتي» لحقائق التعذيبTorture هو أن معظم السجل الموثق عن برنامج الاستجواب التابع لـ «سي آي إيه» لا يزال سريا، بما في ذلك استخدام وسيلة «الإيهام بالغرق» العنيفةWaterboarding بتصريح رسمي وأساليب وحشية أخرى بين عامي 2002 و2006 تقريبا. وكذلك هو الحال مع السجل الكامل لعملية بحث «سي آي إيه» عن أسامة بن لادن بعد هجمات 11 سبتمبر. الوثائق التي تم الحصول عليها من خلال قانون حرية الحصول على المعلومات من قبل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية وجماعات أخرى، وكذلك تحريات صحفيين مثل كاهن دانا بريست من صحيفة واشنطن بوست، وجين ماير من مجلة نيويوركر، ومارك دانر في هذه المجلة، و آدم غولدمان من وكالة اسوشيتد برس، استخرجت بعض التفاصيل عن برنامج الاستجواب التابع لوكالة المخابرات المركزية. ولكن هذا السجل مليء بالثغرات وعلامات الاستفهام.
ويمكن استخلاص تقدير عن الفجوة الكبيرة بين ما يعرفه الجمهور وما تصفه السجلات التي لا تزال سرية من روايات وردت في تقرير أنجزته مؤخرا لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ عن برنامج الاستجواب التابع لـ «سي آي إيه». يقال إن حجم هذا التقرير يصل إلى ستة آلاف صفحة كتبت بعد مراجعة وفحص نحو ستة ملايين وثيقة «سي آي إيه» بما في ذلك برقيات من وإلى «المواقع السوداء» Black Sites (وهي مواقع تابعة لـ «سي آي إيه» في بلدان أخرى تسمح قوانينها بممارسة التعذيب وكشف الفيلم أنها تشمل تايلند والأردن وبولندا ومصر وغيرها) حيث تم احتجاز عدد أقل قليلا من مائة أسير من تنظيم القاعدة من المشتبه فيهم وتم استجواب بعضهم على الأقل بطرق استجواب وحشية كما تم تصويره في «زيرو دارك ثيرتي». ولكن تقرير مجلس الشيوخ لا يزال سريا للغاية، وليس من المرجح أن ينشر بالكامل قريبا.
النتيجة لمثل هذه السرية هي أن ما يوصف في كثير من الأحيان باسم «النقاش» الأمريكي عن استخدام التعذيب مع المشتبه بانتمائهم للقاعدة يتألف في معظمه من ادعاءات، بدون أدلة، من قبل موظفين عموميين يعلمون عن حقيقة السجلات السرية ولكنهم ينفون تماما وجود تعذيب. السيناتور ديان فاينشتاين، على سبيل المثال، قالت إن أسلوب الإيهام بالغرق وغيره من الأساليب العنيفة «لم تكن مركزية» (لاحظ غموض تعبير: «لم تكن مركزية») في استخراج المعلومات التي أدت إلى العثور على مخبأ أسامة بن لادن.
نوصل مع الجزء الثاني الأسبوع القادم بحول الله.
Hamad.aleisa@gmail.com
المغرب