د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
من منطلق الوعي التام لدينا بأن القراءة هي حلة الفكر الثمينة، ومن خلال التأمل الكاشف في قول عبدالله بن المقفع (اكتبوا أحسن ما تسمعون واقرأوا أحسن ما تكتبون واحفظوا أحسن ما تقرأون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون)، ومن خلال الوعي بأن لكل دافع محفز، فإن بناء محفزات القراءة بما يعزز ثقافة الأسرة، واحتضان النموذج القرائي الجيد داخل المحيط الأُسَري،
وصناعة القارئ الصغير الذي ينمو وهو شغوف بتلك الكواشف القرائية المفيدة يعتبر ذلك من قبيل السنن الحسنة، والعكس صحيح عندما تتصحر الفضاءات العائلية من ندي الكتاب، وغزير الفكر فإن ذاك خسارة مدوية؛ وغالبا ما نسمع أخبارا خجولة عن واقع القراءة في المحيط الأُسَري، وبالتالي المحيط المجتمعي، والنبض الخافت حول ذلك، وتسطيح واقعه دون حلول ؛وذلكم لعمري شروع في دفن الثقافة القرائية، وخواء دارها ؛ومما نلاحظه أن كثيرا من المتحدثين في حضرة أجيال العصر من الناشئة ؛ يتحدث عن تراث تليد،وثقافات ماضية؛ وما علموا أن الحضور القرائي اليوم لابد له من قيمة جديدة؛ حيث لم نر في جيل اليوم من يقرأ كالأسلاف دون أن يمل، أو تصيبه وعثاء القراءة،فهل أغمدت الجن معازفها في وادي عبقر لأنه ليس هناك ملهم أو محفز!!؟ ربما يقولون إن لغة القراءة تمنّعت على جيل العجمة كما قال شاعر النيل:
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فراتِ
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفاتِ
ومن الحقائق أيضاً التي يحتم الواقع والعصر التوقف عندها أن الوسائط التبادلية والتفاعلية
أصبحت تزاحم الأسفار والطروس، فينبغي أن ترصد الجهود لتحويل الكتاب رقميا وبثه في قنوات العصر للناشئة ؛ومن خلال البناء الأُسَري المتكامل المدعوم من قنوات المجتمع المحلي؛ يلزم أن تقول الأسرة كلمتها في أهمية القراءة كمحفز أولي للتفكير، والنمو المعرفي كما يلزم تنمية الشغف القرائي لدى أفراد الأسرة،وتشجيع القراءة الناقدة لتكون ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي، وتوقد الذهن، وتكون حاضنة لكل مقومات الفكر الناضج،ونؤكد أن هناك تكاملا بين جودة المنتج القرائي وبين محفزات الفكر المعتدل القويم ؛الذي ينطلق منه بناء الأسرة السليم،ومن ثم بناء المجتمعات بناء وجدانيا تشرق في أروقته الحياة، وتنتشر ثقافة الخلق القويم،وإشاعة المحبة،وزرع مساحات خضراء تورق فيها النفوس، وتندفع للبذل والإيثار؛ كما لا ننسى أن تنمية الذائقة اللغوية عند الأجيال مصدره قراءة ابداعية وافرة .وأجزم أن الحال والعصر والحاجة لتنمية الأسرة يلزمه إنشاء مراكز قراءة في الأحياء من قبل وزارة الثقافة والإعلام، وكذلك لوزارة التعليم دعم آخر في حفز الطلاب للاستفادة والالتحاق بالمراكز القرائية،وأن يرصد التحصيل القرائي للطلاب من مقومات النجاح وأسبابه واجتياز الأنشطة،كما أرى أن لوزارة التعليم أيضا دورا آخر من خلال التحفيز القرائي في مدارس أندية الأحياء، وأن يكون تنمية الشغف القرائي دور من أدوارها الرئيسة، فالقراءة وإن كانت مكتسبات فردية فهي أيضا من الدعائم الأسرية للنمو الصحيح،فإذا ما صفت مصادر القراءة، ودخلت الأوعية القرائية كل بيت،وأحسن إليها ممن يقود نشاطاتها، فإنها ستكون بإذن الله كفاءة محفزة للفكر الانساني، وذخيرة إيجابية في مراحل الزمن المختلفة يستفاد منها في مواقف الحياة؛ كما أن القراءة في وقتنا الحاضر مصفوفة توضيح عليا للوعي المجتمعي بقيمة الحياة وعمارة الكون التي وجه إليها سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ويقول العالم جوبيز «يخصب ذهنك، ويشق أمامك جديد الآفاق عندما تنكب على قراءة الكتب» وأخيراً لابد من انعطافة مفصلية في صناعة الكتاب في بلادنا، وهذا يلزم أن تكون لدى المرجعيات المعنية بصناعة الكتاب حقائق مقنعة يُدفع بها للمؤلفين،ويقبلها المتلقي في عقله ووجدانه وقد قيل: «عندما تقرأ استقبل المعاني بقلبك»، وأن تكون محتويات القالب القرائي من بدائع الفكر، وجليالقول، وأن تحتفل البلاد بصناعة الوعاء القرائي الخلاق كما يُحتفى بالانتصارات الرياضية وغيرها.
نعم نحتاج إلى صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب لتصبح المكتبات منارات منصوبة؛ يحيطها قدر كبير من الانفتاح على الأسرة والمجتمع .
يقول أحمد شوقي:
أنا من بدل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافيا إلا الكتابا
صاحب إن عبته أو لم تعب
لبس بالواحد للصاحب عابا
كلما أخلقته جدّدني
وكساني من حلى الفضل ثيابا
تجد الكتب على النقد كما
تجد الإخوان صدقا وكذابا
فتخيرها كما تختاره
وادخر في الصحب والكتب اللبابا.