د. عبدالرحمن بن محمد الغزي
في يوم الخميس الموافق 28-2-1437هـ اتصلت بأخي فضيلة الشيخ محمد مهدي حُمَّدي، كعادتي معه في تعاقب الاتصال للسلام والسؤال، وقبيلة بني حُمَّد قبيلة كبيرة متاخمة للحدود اليمنية على امتداد الشريط الحدودي من الموسم وحتى جبل جحفان. وفي العمق إلى محافظة صامطة، وهم أهل أمانة وديانة وولاء وشجاعة، تربطني بالشيخ محمد علاقة عمل عندما كنت رئيساً لمحاكم جازان. كان يعمل نائباً لمدير الشؤون الإدارية الشيخ محمد خلوفة طياش، أنعم به وأكرم خلقاً وكرماً وصدقاً وأمانة وذكاءً، والأخير من قبيلة بني مبارك المشهورة. تحدثت مع الشيخ محمد مهدي وكأنه أراد ألا يقطع الحديث بيني وبينه، وفي النهاية وقبل توديعه قال: أحسن الله عزاءك وآجرك في مصيبتك فقلت: بمن؟ فقال: بإبني الدكتور عبداللطيف وفي ولديه، ابنه الوحيد، وإبنته ثالثة أخواتها فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله فبادرت بالحجز في يوم الجمعة التالي ليوم الحادث وكم هي أمنيتي أن أدرك الصلاة عليه. (وما شاء الله فعل) وأقلعت الطائرة الساعة العاشرة والنصف تقريباً، وكنت قد استأذنت أخي إمام وخطيب جامع خادم الحرمين في أن أخطب عنه. ووصلت إلى جازان وقت الصلاة ثم توجهت إلى الجامع ووجدته في الاستقبال مرحباً ومعه بعض الشباب وقدم الطيب وكعادته، ثم علوت أكبر منبر في جازان وكل منابرها كبيرة. وألقيت الخطبة الأولى: عن التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر وغيرهما) عن خيرهما وشرهما. وفي الثانية عن الموت والحوادث وعن المتوفى، وبعد الصلاة تناولت الغداء على مائدة الشيخ الكريم حسن. وقبيلته الحكامية معروفون من ذرية سليمان الحكمي حاكم المنطقة في وقته، يراجع في ذلك (المخلاف السليماني) للشيخ الأديب المعروف محمد بن أحمد العقيلي - رحمه الله - وشارك في المأدبة مجموعة من أقارب الشيخ حسن والتي قامت بإعدادها زوجته الكريمة أم رائد، (علوية بنت عبدالله الحكمي) جارتنا في جازان عفيفة شاكرة عابدة زاهدة تروي عنها زوجتي جمالاً في الخُلق والخلق.
وبعد الغداء توجهنا إلى صامطة، بلد العلم والقلم، ومنها إلى محافظة الطوال بلد الرجال والأبطال، وعند وصولنا إلى منزل الشيخ محمد والد المتوفين إذا بخيمة كبيرة جداً منصوبة في ردحة المنزل والناس منها وإليها تفد وتروح يبكون بكاءً لا جزع فيه، يدعون للمتوفين بالمغفرة والرحمة، ولأهله بالصبر والاحتساب، دخلت ومن معي إلى مكان العزاء وإذا به خلق كثير، وفيه من الشيوخ من تعلوهم الهيبة والوقار، أهل لحاء جميلة يسلمون عليك بسلام تحية الصلاة، يدعون بدعاء الصابرين، مشايخ قوم عن كسب المحامد لا يفترون وعن العدو لا يختفون. ولولي أمرهم يطيعون يسبحون الليل والنهار لا يفترون. سلمت على الجميع وجلست حيث انتهى بي المجلس فأبوا إلا أن أجلس في مكان مخصص لعلية القوم. فألقيت موعظة بحسب ما أوتيت من العلم. ثم سألت القوم عن أخي الشيخ محمد فقالوا: عليه آثار التعب، وسوف يأتي لأنه علم بمجيئك. فقلت: لا بد لكل محب صادق المودة وخصوصاً الأب إذا أصابته مصيبة كهذه لا بد أن يؤول إلى حد السقام والضنى والنحول، وربما أضجعه ذلك، وهذا الأمر كثير جداً موجود أبداً، والأعراض الواقعة من الصدمة عند غير الصابرين غير العلل الواقعة من هجمات العلل، ويميزها الطبيب الحاذق والمتفرس الناقد. إلا أني أعرف الشيخ محمد وقوة إيمانه وصبره. وبعد قليل خرج علينا في لباس جميل وتحمل للمصيبة أجمل. خرج علينا وبادرني مرحباً بأخي. آلآن وقد خففت مصابي، فقلت له: لله درك أبا عبداللطيف أعرفك وقومك:
لكم أوجه غر وأيدٍ كريمة
ومعرِفة عدُّ وألسنة لُدُّ
عرفت الدكتور الاستشاري عبداللطيف وهو طالب في كلية الطب. وكان -أكرم الله نزله- يعدني أباً وأخاً. لم يكن له وله بالدنيا قط، ولا فارق الطريقة المثلى، يقول عنه والده: ولا أكل حراماً قط، ولا قارف منكراً، ولا أتى منهياً عنه يخل بدينه ومروءته، ولا قارض من جفا عليه، وما كان في طبقة أمثاله مثله. انتهى.
يروى عنه -رحمه الله- أن ممرضة دخلت عليه وحدها فقال: نعم ادخلي، فقد استفتيت فأجازوا دخول المرأة على الدكتور إذا وجدت الحاجة ولا خلوة. قلت وبهذا أفتي أنا.
ويروى عنه أن امرأة جاءت بطفلها الرضيع تسأل عنه وهو في إجازة، فعلم بذلك وقطع إجازته. وتحدث عنه زميله الدكتور محمد حسن حكمي وهو الآخر مشهود له بالنجاح والصلاح والإصلاح في عمله، يقول الدكتور محمد: ما أذن المؤذن للصلاة إلا وقد أدى سنته قبل حضور زملائه.
خليلاى دون الناس حزن وعبرة
على فقد من أحببت ما لهم فقد
تلج دموعي بالجفون كأنما
جفوني لعيني كل باكية خدُ
لله درك ابن وطني من دكتور ودكتورة يرون المراجع منهم بمنزلة هارون من موسى. أبناء بلدي وجلدتي يعصون أنفسهم وعقولهم، ولا يتبعون أهواءهم ولا يرفضون دينهم ولا يتجنبون ما حض الله عليه ورتبه في الألباب السليمة من ترك المعاصي ومقارعة الهوى، ولا يخالفون الله ربهم وبه يعدلون. يخالفون إبليس فيما يحبه من الشهوة المعطبة.
في الدكتور السعودي والدكتورة السعودية صفتان متضادتان إحداهما: لا تشير إلا بخير ولا تحض إلا على حسن ولا يتصور فيها إلا كل أمر يرضي وهي العقل.
والثاني: ضد لها، فالأولى لباسنا والثانية لغيرنا إلا من رحم ربك.
خرجت من عند الشيخ محمد وودعته بهذه الوصية:
من خص بالذم الفراق فإنني
من لا يرى في الدهر شيئاً يُحمد
اللهم أغفر للمتوفين، واربط على عقول الباقين واجعلهم كما جعلت آل ياسر لنا ولهم الجنة أجمعين. ثم توجهت بعد ذلك إلى أمير المنطقة للسلام عليه، وكان الوقت بعد صلاة المغرب مباشرة. سألني سموه ماذا جاء بك؟ فقلت له: معزياً لآل مهدي ومسلماً عليك ثم قصصت عليه القصص. فقال: رحمهم الله لم يصل إليّ خبرهم بعد. فأخذ الهاتف وقام بتعزيتهم وتكلم مع أحد مسؤولي المنطقة وأمره أن يذهب ليقدم العزاء عنه وعن مسؤولي الإمارة.
ثم تناولت معه العشاء، وودعته أجمل وداع وبأجمل تحية وأنا أردد:
لقد حازني وجد بمن حازه بعد
فيا ليتني بعد ويا ليته وجد
من يأتيني بولاة أمر كولاة أمرنا يتفقدون أهل الحاجة ويواسون أهل المصيبة، كما كان يفعل عمر رضي الله عنه، فاللهم انصرهم نصرك لأنبيائك.