د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بين أن يكون الجنون عقلًا أو يصبحَ العقل جنونًا خيطٌ دقيقٌ يستفزُّ ويستوقف؛ فقد يسير بنا العقل نحو التيه وربما يَهدينا الجنون إلى الحياة المطمئنة، ونظرية أبي الطيب الخالدة لم تنفها الأعوام؛ فذو العقل يشقى وأخو الجهالة ينعم، كما أن مسرحية «هنري الرابع» لبرناديللو - المسرحي الإيطالي الأشهر 1867-1936م مثلت اندماج الممثل في دوره فبدا لمن حوله مجنونًا وهو الأعقل، وفي رواية «العصفورية» للقصيبي رأينا البروفسور المجنون ممتلئًا بالحكمة، وبالقدر نفسه أدركنا كيف كان جنون «قيس» إبداعًا وإمتاعا.
** كذا حكى الشعر والمسرح والرواية، وكذا تمتلىء أذهاننا بحكاياتٍ وعيناها أو سمعناها عمن وُسموا مجانين فتداولنا مقولاتٍ لهم وتناقلنا صورًا عنهم تشيرُ إلى عمقٍ في الرؤية يحلل بشفافيةٍ واقعَ العقلاء ويُلبسه ملامح جنون، وتسكننا الحَيرةُ؛ فمن العاقلُ ومن المجنون؟
**هذه هي الحياة؛ ذرتا جنونٍ تمتزجان بذرة عقل فتبدو منطقة الأشياء عبثًا وفق نظريات التجريد العقلي ومعايير التوازن الروحي؛ فأمور الأحياء غير قابلةٍ لمعادلات النواتج الثابتة، وحين تتداخل عوامل المصالح الأنوية والجمعية فإن فصل العقل عن الجنون يصبح عمليةً مستحيلة، وأجراءُ الرؤوس أقدر على قلب الحقائق وتعمية الوثائق والتبجح بالتجهيل والتضليل، وفي عوالم السياسة لا يمكن تفهم العقل إلا إذا رافقه تحليلٌ مجنون من «خبيرٍ» غير عاقل.
**نعيش زمنًا يبدو فيه السليطُ صوت وطن، والفدِمُ لغةَ قيادة، والعييُّ فصيحَ لسان، والكاذبُ حكيم جنان، والقاتل مجاهدًا والجهاد إرهابًا والخائن عروبيًا والعروبي متطرفًا، وحين يمتزج ملالي طهران وسفاحو الشام والعراق واليمن فيحكمون أرض السواد والجهاد والحكمة ويجدون من يسندهم فالجنون نفسه يتبرأُ من خلاياه والعقل تخترقه قوى خفية تخلق مزجًا بين أناسيّ تلتئم في تكوينهم جيناتٌ تستعصي على التصنيف.
**كان «نيرون» في وعيه حين كان يتفرج على روما وهي تحترق بتدبيره ويعزف على منظر الحريق أغاني «هوميروسية» ولما كُشف فعله ألصقه بالشعب المسكين فنكَّل بهم ورسم بداية نهايته منتحرًا مرجومًا، ومثله سيجيءُ مصير كل الطغاة مهما علَوا فيحرقهم عُتوُّهم بمثل ما أحرقوا به أرضهم وأهلهم.
** نفهم الحرائق المادية وقد نتقيها لكننا لن نفهم الحرائق المعنوية التي يوقدها المؤدلجون في أرض مطمئنة فتصبح لغتهم لغوًا يجابهون به أبناء أبيهم في تسافهٍ مؤلمٍ هدفه إذكاء نيران البغضاء داخل كيانٍ مستقر، وفيما تتضامن الحراب العدوةُ للنيل من البناء الداخلي يزيدون إسعارها بتجهيز التهم وإشعال الفتن.
** الخارطة القيصرية الصليبية لم تكتمل وسومُها بعد، ومن أجلها استطاع نظام الملالي الفارسي الدخول بقوة إلى الأرض العربية وصار للأقلية العددية والنوعية يدٌ عليا؛ فهل نعي أن عدونا على مرمى خلافاتنا، وهل يعون «هم» ماقاله صلاح الدين الأيوبي: «الدم لا ينام».
**العقل يؤوب.