كنت مدعوًّا إلى مهرجان ابن مقرب في مملكة البحرين الذي أقامته مؤسسة البابطين، وهناك رأيت شابًا يتدفق حيوية ونشاطًا فسألت عنه فقيل هذا الأستاذ محمد الجلواح، وحدث أن جمعنا لقاء وقت الغداء فسألته عن اسمه لا استغرابًا بل لاهتمام شخصي بالأسماء فأذهلني وهو يسرد لي المادة المعجمية المفسرة لاسمه، ومضت سنوات كنت أسمع عن نشاطه الأدبي ومشاركاته، ولكن لبعد التخصص لم يكن لي فرصة متابعة إنتاجه حتى تفضل بإهدائي عملين، أما أحدهما فهو (فضاءات) وجعل عنوانا صغيرًا (حروف منثورة) ولست أدري أهي الحروف جمع حرف أم الحروف بمعنى الكلمات ولست أدري أمنثورة تعني مبثوثة أم تعني أنها من النثر لا الشعر، ومهما يكن من أمر هذا فالكتاب وإن يكن جملة من المقالات الصحفية في المجلة العربية فهو واحة يجد القارئ فيها أنسًا وراحة، ويكشف الكتاب عن اهتمام شديد بالقارئ فالكاتب يحترم القارئ بأن ينتخب له من الموضوعات ما يجمع بين الفائدة والطرافة، وهو على الرغم من استناده إلى ثقافة عريضة وعميقة حريص الحرص كله أن لا يشعر قارئه بذلك، فهو يكتب بأسلوب واضح مباشر، وهو يعالج من الأمور بهدوء شديد يصل إلى قلب القارئ وعقله، أما جمال سبك العبارة والسلامة اللغوية فهي من أكثر ما يتصف به عمله، أما الموضوعات فهي تكاد تزوي اهتمامات كل قارئ فهي تحلق في الآداب والقضايا الاجتماعية وتجمع بين نظرات إلى الماضي وأخرى إلى الحاضر، كتبت بحيدة وموضوعية وأناة وطرح عقلاني يمثل روح المثقف العربي المتوازن الذي لم تفسد عقله أدلجة ولا تطرف أو تعصب.
أما (نزْف) فهو ديوان شعر جمع بين قصائد عمودية الشكل وأخرى جاءت على نظام شعر التفعيلة، وليس باستطاعة نحوي مثلي أن يحكم على جماليات تلك الأشعار فهذا أمر يحسنه البلاغيون والنقدة. ولكني مع هذا أوافق الشاعر العظيم أحمد الصالح في قوله:
في شعره غرر كأنفاس الربى
يا طيب شعر العاشق الجلواح
ولولا هذه الشاعرية ما كانت تنساب فيض مشاعر عاشق للجمال في أبهى صوره فينفعل به ثم يتغنى معبرًا عن ذلك بأبيات حلوة النغم عجيبة الأخيلة، وهنا يكفي أن أشير إلى قصيدة استوقفتني وهي تصف مشهدًا متكررًا نراه بأعيننا العابرة فلا يثير في أنفسنا شيئًا ولكن الشاعر يخلق منه قصيدة عجيبة في تصويرها وأخيلتها وجرسها، قصيدة تعبر عن فتاة تحمل باقة ورد وتشمها وتلامس بها خدها وتطلق آهات الاستحسان فتفجر في الشاعر بركان شعر:
رقص الورد فوق خد وجيد
وشفاه وراح يعزف لحنا
يتهادى بمبسم الشهد بردًا
وسلامًا وفي يديها تثنى
ماؤه من عيونها قد سقاه
قبل أن يرتوي من الأرض عينا
وردة النيل أحسد الورد حقًّا
حيث يحظى بقبلة وبمثنى
وثلاث وأربع وبشم
وبضم ومقلة نصف وسنى
هو ما اسطاع أن يقاوم عطراً
بشريًّا وكان يزعم ظنًّا
جسّد النيل حسنه فيك حقًّا
فاختصرت الجمال شكلا ومعنى
فإذا قلت إن حبك سار
في خلاياي فارحمي ذا المعنّى
وأحسب القارئ وهو يمر على (مثنى وثلاث وأربع) و(اسطاع) و(المعنّى) يدرك كيف تظهر الخلفية الثقافية دون تكلف بل صدور عن معطياتها، والقارئ يحس أن تخير رويّ النون للقصيدة وهبها جرسًا حلوًا ناسب مضمونها. فإلى هذا الشاعر التحية والإعجاب نزِفّ.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض