تتفاوت الكتابات النسائية السعودية في قدرتها على تصوير ذاتها أو جرأة طرحها ومعالجتها لقضاياها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأوضاع الاجتماعية التي تمارس ضغطها بشكل مباشر أو غير مباشر على الكاتبة، فباتت تبحث في أعمالها عن وسيلة تواصل مع الآخر تسجل فيها ما يجيش في نفسها من تناقضات و أحلام مكبوتة، ورغبات مخبوءة، كل ذلك دفع بعض الكاتبات إلى تفجير المكبوت والمتراكم عبر الزمن لتعلن عن تمردها على عزلتها وعلى الصورة التقليدية المعروفة عن المرأة التي لا تبوح ولا تصرح بما يموج بداخلها من آلام وحسرات، فقد تغير الزمن وأصبحت الكاتبة أكثر وعيًا بذاتها وبقضاياها، وأكثر جرأة في كشف كل تفاصيل جسدها وتموجاته، لهذا كتبت عن جسدها ووظفته في حكاياتها تعبيرًا عن رفضها لوضعها وتشييئها في عالم تتسارع فيه خطوات التقدم باستثناء النظر إلى أوضاعها، ولعل مظاهر الخوف الاجتماعي وثقافة المجتمع المحكوم بالعادات والتقاليد تحد الكاتب والكاتبة من الانطلاق في التعبير عن رغباتهم، ورؤاهم، وأفكارهم، لذا فإن الكتابة تحت اسم مستعار خوفًا من ردود فعل المجتمع، منحت الكاتبات والكتاب على حد سواء فرصة طرح كثير من القضايا المسكوت عنها، ومعالجتها بالتخفي وراء الكلمات للحديث على لسان شخصيات ورقية، بصورة تمنحهم القدرة على التصريح فصدرت رواية (الآخرون) لصبا الحرز، ورواية (الأوبة) لوردة عبد الملك، ورواية (القران المقدس) لطيف الحلاج، ورواية (غير وغير) لهاجر المكي، ورواية (حب في سجن الكرامة) للمهاجرة، ورواية (عيال الله) لشيخ الوراقين، ورواية (ساق الغراب) ليحيى آمقاسم. وأغلبها روايات حملت جرأة كبيرة في مناقشة قضايا مسكوت عنها، كما أنّ لغة الجسد جاءت بشكلٍ مكشوف لم يعتد عليه المجتمع المحافظ، فكان الحل الوحيد أن تنشر الروايات من دون أن تحمل الاسم الحقيقي لكاتبها أو كاتبتها خوفًا من الرقيب، ومن تهمة الربط أحيانًا بين شخصية بطل الرواية وشخصية مؤلفها الحقيقي، مما يؤكد أثر المحيط الثقافي والوسط الاجتماعي على نفسية الأدباء وإبداعهم، ويقر أكثرهم أنه سيكتب أفضل لو تمتع بقدرٍ أكبر من الحرية، فالعقل الجمعي يرسخ ثقافة معينة تقهر وتقمع كل ما يخالف عاداتها، وتسعى إلى تثبيت الواقع وتجميد الثقافة وبهذا تقتل الإبداع وتحد من حرية الكاتب، والمبدع بطبيعته يضيق بالقيود التي تحاصر فكره فيعبر عن رغبته في كسرها فيكتب ما يريد تحت اسم مستعار يتيح له قول ما يريد كيفما يريد، فيحقّق ذلك نوعًا من التعويض لدى الكاتب يعيد له توازنه، وهو يمارس حق التعبير عن مشاعره وآلامه بطريقة لا يصطدم فيها مع محيطه الاجتماعي، والثقافي.
وكم لجأ الكتاب والشعراء في مختلف العصور إلى التقنع بأساليب مختلفة- ولو بشكلٍ مؤقت- للتعبير عن رفضهم للواقع المستبد، وتعرية بعض الأنظمة الاجتماعية التي تخنق الإبداع وتصادر حرية المبدعين؛ لأنهم كشفوا زيف تلك القشور التي يختبئ خلفها فكر متطرف حوكم بسببه كثير من المفكرين والكتاب بتهمة التمرد تارة، وبتهمة الإلحاد والكفر تارة أخرى، فاتسعت الهوة بين المبدع ومجتمعه بشكلٍ جعله يعيش حالة من الاغتراب في محيط يصعب عليه الاندماج معه، فيجنح نحو كتابة مغايرة لإعادة صياغة واقعٍ يفجر فيه صمته ليحقق ذاتيته، فتغدو نصوصه مغرقة برمزية لا يجيد فك شفراتها إلا القارئ الخبير، وعندها تكون الكتابة نخبوية بعيدة عن المتلقي العادي كما فعلت رجاء عالم في رواياتها التي تميزت بلغة خاصة أهلتها لحصد جوائز عربية و عالمية، ويقابل تلك الكتابة العالية كتابة متحررة من كل القيود ظهرت عند جيل جديد من كتاب الرواية في الألفية الثالثة، في حالة من الإنتاج المتضخم أشبه ما تكون بفوضى الكتابة أو اللارواية -إن صح التعبير- فالراصد لما كتب في الفترة الأخيرة من روايات لا يجد إلا قضايا الجنس، التي تجعلك تظن أحياناً أنها الدافع الحقيقي وراء روايات كتبت بالفعل من أجل هذا الغرض؛ تحقيقًا للشهرة أو رغبة في التمرد وتجاوز الخطوط الحمراء، فإذا فتشت في البعد التقني والفني للرواية صفعتك هشاشته، ونؤكد هنا على أن النقد لا ينبذ توظيف الجنس داخل الرواية، إنما ينفر من الطرح الصريح بفجاجة لا ترتكن إلى موهبة كتابية يدعمها التخيل الإبداعي، الذي يعد بالإجماع أساس الكتابة وإلا تحول النص إلى صورة فتوغرافية تكرر برتابة مملة ما نراه في الواقع، من هنا تبرز مقدرة الكاتب على امتلاك القارئ الذي أصبح يتفاعل مع التجربة الإبداعية، ويشارك في إنتاج المعنى بثقافة متميزة لا تركن إلى الاستهلاك السلبي، وهذا ما ينبغي أن يعيه الجيل الجديد من الكتاب الذي اندفع للكتابة من دون خبرة تؤهله لمخاطبة المتلقي بأسلوب يوحي أكثر مما يصرح، ويغري بمغامرة مختلفة عن المألوف، في سبيل تحقيق قواسم مشتركة بين الإبداع والواقع المعاش الذي يسعى النص لمعالجة قضاياه.
ويتساءل الكثيرون عن سبب هجمة الرواية في الآونة الأخيرة على كسر التابو! وعلينا الاعتراف بدور سياسة الحجب والمنع التي مارست قمعها للكتّاب في ظهور هذا الكبت على هيئة رغبة جامحة في البوح من دون اعتبارات للفن، فالحرية هي الضمان لإبداعٍ حقيقي، لكنها لا تعني أبدًا الخروج عن القيم والمبادئ السليمة، إنها الحرية المسؤولة التي يعيها المبدع ويتحرك في إطارها بتقنية فنية تكفل له ترجمة مواقفه من السلطة باختلاف أنواعها، وتطرح رؤيته بموضوعية لا تتعارض مع الإبداع، ومن دون تلك الحرية المسؤولة ستغرق الرواية الجديدة في سيل من التمرد تحت مظلة الاسم المستعار.
جدة