(.. هزئت الحيّةُ بجلجامش حيّاً
وأنكيدو ميتاً
ونخرتْ الدودةُ عصا سليمان..)
توقفتُ طويلاً عند مقاطع من هذا المستوى في ديوان المبدعة/ د. نوال الحوار (القطا في مهبّ العطش) الصادر حديثاً عن دار الجزيرة الثقافية ببيروت، وعلى رغم خلو الديوان من الإيقاع الشعريّ وتحرره المتباين من التقنيات اللغوية للقصيدة الحديثة، إلاّ أنه غنيّ بإبداع من نوع فاتن.. إبداع يتجلى فيه التاريخ مع الفلسفة، ويختزل كثيراً من الإيحاءات الأنثوية والإحالات التاريخية في جمل قصيرة متتالية تترابط أحياناً وتفكك نفسها أحياناً أخرى بتأويلات تبدو كالشروحات التي تزيد التكثيف تكثيفاً وتدفع العمق إلى أعمق، وكلّ ذلك في أسلوبٍ بسيطٍ ناعمٍ يشبه الوشوشة أو الهمس أو حتى الإيماء:
(لا تنظري إليّ
لكلّ منا رحيله
وحرائقه
وغربته المعقودة بجناحيه.
لكلّ منا عطشه
وملح دموعه
وبوصلته المفتونة بالسراب).
إنها قصائد نثرية بامتياز، والامتياز المقصود هنا ليس تأكيداً على نثريتها بقدر ما هو تأكيد على امتيازها وتميزها نثرياً حتى استحقت صفة (القصيدة).. وقصيدة نوال الحوار جاءت قصداً على حالها النثريّ الغنيّ بالنثرية المبدعة:
(لستُ شبيهتي
وصوتي ليس صدىً لتلك
فلأبتكر وقعاً بلا توقيع
وقوافيَ بلا أجراس
وغناءً...
غناء بلا طرب)!
وتضيف:
(وليكن رحيلٌ بلا خريطة
وسَفرٌ يخشى الوصول..
أنا مكتشفة الصوى المضللة
وتهافت التعريفات
وممرضي الفكرة في سرير العبارة
ألوذ بالفتنة الساحرة
لموسيقا النشاز
وبموسيقا الخطوط السارحة
للقرى النائية
تمضي لينة طرية
إلى عراء الأمكنة
و..
وأرفض أن يقتربَ الطبلُ من الناي)!
هذا الرفض المقصود للطبل (الإيقاع) كما يتناهى إلى حدسي، هو مكن الإبداع في هذه النصوص التي اتخذت من الناي (انسياب اللغة) أسلوباً هطلتْ به أفكارها وتأملاتها المتوارية خلف ما يبدو كأنه تقارير كنائية مباشرة، في حين أنها تلتبس بأكثر من معنى يحيل إلى أكثر من قضية وذاكرة وخيال:
(وبقي هو هو
لا يفرح بمولود
ولا يعزّي بمفقود
ودَهَر الناس
فالناس به مدهورون
لا يجوع ولا يعرى
ولا يموت ولا يحيا
فمن تكونين أنتِ؟!)
هي في كتابها كله تسائل نفسها (من تكون؟) ولا أحد يستطيع أن يقدم أجوبة عن سؤال كهذا، تطرحه قطاةٌ في مهبّ العطش، غير أن يتخذ من إبداعها سبيلاً إلى متعةٍ تأملية وفكرية (إبداعية) في المجمل، أو كما فعل مقدّم كتابها الشاعر عبد القادر الحصني الذي كتب دراسة تتخذ من الكتاب نسقاً بنيوياً متماسكاً، أو كما فعلتُ أنا باجتزاء مقتطفات شدّتني إلى تناولها في مقالة انطباعية عابرة.
وقبل الختام، تجدر الإشارة إلى عناوين القصائد في هذا الديوان، ففي العناوين إبداع آخر يجعلها تبدو بمستوى قصيدة!
ومن العناوين: (اتسع الخاتم على إصبعي) و(أمسك الليل بيدي) و(حلم ليلتين) وغيرها..
إنه، باختصار، ديوانٌ جميلٌ يستحق القراءة والإعجاب..
بيروت
f-a-akram@maktoob.com