علامات الاستفهام في العنوان مقصود بها الاستنكار، بل هو الإنكار الصريح بأن يكون لدينا كشعب سعودي ما يمكن أن نسميه (فولكلور). لو أننا تمعنا في مصطلح الفولك- لور، لوجدنا أنه يتكون من كلمتين هما: (فولك Folk) وتعني أهل الريف والقرويين من البسطاء، و(لور Lore) وتعني الإبداع الخيالي. هذا الإبداع الريفي مفهوم غريب على مجتمعنا ولا يتناسب مع إنتاجاتنا التراثية، بل إن وصف هذا الانتاج بالفولك- لوري قد أضر به وأفسده، خاصة بعد أن تمت ترجمته إلى مرادف لغوي يناسب المصطلح، لكنه يناقض المُنتج، هو: الشعبي.
هنالك ظروف تاريخية أدت إلى ظهور المصطلح في بريطانيا ومن ثم العالم الغربي في نهايات القرن الثامن عشر، وهي ظروف خاصة بأوروبا لم تمر على عالمنا في الجزيرة العربية بشكل خاص. لنعد إلى الوراء ونتتبع تلك الظروف وبعدها نحكم إن كان منتجنا التراثي الأصيل يتوافق مع الفولك لور الغربي.
من ظلام العصور الوسطى أطلت مطابع جوتنبرغ على الساحة الغربية، ومن يومها أصبحت الكتب متوفرة فانتشرت القراءة، وأصبح للطبقية الاقطاعية منافس جديد، ألا وهو العلم. هذا الفارق التمييزي التنويري رفع من قيمة المتعلمين وقلل من شأن الأميين. واستمر العلم سيد الموقف في أوروبا إلى أن توّجهُ العلماء بالاختراعات الحديثة. في نهايات القرن الثامن عشر حلت الثورة الصناعية وبدأت ميكنة صناعة النسيج والحديد واكتشاف الطاقة البخارية، فانطلقت على إثرها الكتل السكانية- وقد تطورت وسائل المواصلات- من الريف والقرى إلى المدن الصناعية التي وفرت لهم فرصا وظيفية حديثة.
ترك الكثير من مواطني أوروبا أراضيهم الزراعية ورحلوا من مناطقهم الريفية إلى المدن الصناعية والمناجم، بل وتركوا القارة بأكملها متجهين إلى العالم الجديد في أمريكا واستراليا. انفصل سكان المدن عن أصولهم وأهاليهم البسطاء وانضموا إلى خطوط الإنتاج التخصصية التي لا تربط العامل سوى بالآلة التي تكلفه بجزئية بسيطة وتكرارية من تصنيع المنتج. من العلاقة المباشرة مع الأرض، ومن جهد زراعي متكامل، ومن حميمية الأهل والعيش المشترك، انتقل الكثير إلى العمالة المميكنة، وطال بهم البعد حتى ابتلعتهم تروس التمدن.
في هدوء الريف وبطء وتيرة العيش به، استمر القروي في فلاحة الحقول وبيع الثمار، وكذلك حافظ على ملامح تراثه الأصيل. الفجوة كما يظهر لنا ثلاثية تفصل بين الغني والفقير وبين المتعلم والجاهل وبين العامل والفلاح. الآن تظهر كلمة فولك لور بكل حمولاتها الطبقية والعنصرية الثقافية: حينما يزور المديني الريف يجد أن الحياة هناك عجيبة وغريبة عليه، وأن الطقوس التي يمارسها الريفيون غير منطقية ولا مقبولة، لكنه يعرف أنها ممارسات ماضوية حافظ عليها أفراد بسطاء لهم معتقدات مبنية على الخرافات التي حلت محلها الحقائق العلمية. أهل المدينة متمدنين وجميع سلوكياتهم ومعتقداتهم وطرق معيشتهم حضارية، ومن هذا المنظور يبدو أهل القرى متأخرين وجهلة وسذجا.
ومن بعد جدل فلسفي فكري ساد في القرن الثامن عشر حول طبيعة الإنسان والمفاضلة بين فطرته الفاضلة ومدنيته الشريرة، أو فطرته الفاسدة وتطويعها الحضاري نشأت في القرن التاسع عشر أيدولوجية الرومانسية القومية التي انحازت إلى منابع الحياة الأصلية ورأت في براءة الطفل ونقاء الفلاح رموزاً لصفاء التكون البدئي الذي لم تلوثه الحضارة والمدنية الطارئة على طبيعته الطيبة. وقد رحل الشعراء الرومانسيون من المدن الصاخبة إلى الريف الهادئ لملامسة تلك الروح الأصيلة والنقية في لغة الفلاحين وطرق حياتهم وملبسهم ومأكلهم وجميع ملامح معيشتهم. ثم بدأت حركة الاستكشاف التوسعي للمملكة المتحدة وبقية الدول الأوروبية فانطلق الرحالة في بقاع الأرض باحثين عن قبائل بدائية في مناطق نائية حافظت على نمط حياة أولي لم تطله يد التحضر، وانضم بذلك الفرد البدائي لقائمة رموز البراءة والطهر عند الرومانسيين.
إذاً صاحبت حركات الاستعمار الأوروبي لأراض مختلفة حول العالم دراسات موسعة قام بها التاريخيون والأركيولوجيون والاثنوجرافيون والأنثروبولوجيون الذين اعتبروا معلوماتهم المجمّعة مادة فلكلورية ثرية، وأطلق المستعمر صفات الهمجية والبربرية والبدائية على مجتمعات موغلة في التوحش مثل مجاهل أفريقيا وأستراليا وأمريكا. حين اقتربت دراسات المستشرقين من ولايات الدولة العثمانية كانت تقدم معلومات للدول المستعمِرة تعينها في مهمة التقدم والتوغل في أراضيها. لكنها نظرت إلى المعلومات أيضاً تلك النظرة الفاحصة لمواد تراثية أسمتها فلكلور. أما البلدان العربية التي وقع عليها الاستعمار فقد لجأت إلى تعزيز فكرة الفلكلور حفاظاً على هويتها وتبيان تفردها ومقاومة ذوبان خصائصها في ثقافة القوى الاستعمارية الطاغية، كما فعلت من قبل ألمانيا واسكتلندا وإيرلندا وفنلندا.
يمكننا القول بعد كل هذا أن الفلكلور مصطلح نشأ لوصف ممارسات معيشية لمجموعات هامشية في المجتمعات المتطورة التي شهدت انفصالاً بين الصفوة المتعلمة التي فاخرت برقيها وارتقائها في السلم الطبقي، وبين العامة التي حافظت على التراث الأصيل فوصمت بالجهل والتخلف والبدائية، مجتمعات انقسمت إلى ريف قروي ومدن حديثة سكانها يترفعون ويتعالون عن التحدث بلهجات القرى وعن العيش بشكل عفوي بسيط وعن ممارسة طقوس الحياة التقليدية.
هذا هو مغزى مصطلح الفولك لور وهذه هي دلائله، فهل يندرج تراثنا السعودي الأصيل تحت هذا التصنيف؟ تجربة الجزيرة العربية تجربة فريدة، فهذا المجتمع مر بظروف موحدة لم تستدع انفصالاً يقسمه إلى فئات متطورة وأخرى متخلفة. كان الوضع السائد حتى الربع الأول من القرن العشرين يسمح لأفراد المجتمع بالمحافظة على التقاليد المتوارثة بالممارسة المستمرة وبتكرار الطقوس الكلامية والفعلية بعفوية ومتعة لا حدود لها. كان الناس في المناطق المختلفة يعيشون تراثهم الأصيل ويتناقلونه شفهياً دون أحكام مسبقة تصدرها مجموعة ضد مجموعة ولا انتقادات تسفه من قيم الآخرين وخلاصاتهم السلوكية.
حين سطعت شمس الحضارة الحديثة على هذه الجزيرة في العهد السعودي وصل نورها إلى جميع المناطق واخترقت طرق العيش الحديث كل القرى والمدن في وقت واحد. افتتحت المدارس في المدن والقرى في آن، وحين خرج أهل القرى والأرياف إلى المدن لم تكن المصانع هي الجاذب، بل الوضع الاقتصادي المرموق الذي يدعو الفرد إلى استقطاب أهله وأفراد قبيلته إلى تلك المدن ليشاركوه النعيم. انفتاح الجزيرة العربية وتوحيدها جعلها أرضاً واحدة لا فروق بين أفرادها فكلهم مواطنون لهم حقوق واضحة في التعليم والسكن والعمل. كما أن الجزيرة العربية قد أنعم عليها الخالق العظيم بنعمة الاستقلال فلم يطأها غاز ولا مستعمر، لذلك فإن اللجوء إلى تفخيم الحس التراثي لتحديد الهوية الوطنية ومقاومة الذوبان لم يكن أمراً ذا شأن يذكر.
هذا الاجتياح الرهيب من أنوار التحديث وتزامنه مع عصر تكنولوجي هائل أبهر العيون ودفع الشعب كله إلى الأمام حتى تناسى في زحام التعلم والارتقاء تراثه الأصيل. لم يكد الشعب يدرك أنه على مفترق طرق حتى داهمته قوى التحضر في عقر داره، فلم يضطر إلى الانفصال عن أرضه ولا الرحيل إلى مراكز التمدن. ثم جاءت موجة أخرى ساوت بين الرؤوس وأصمتت كل سبل التناقل الشهفي للتراث الأصيل وجمدت كل وسائل إحياء ممارسات ذلك التراث. قوى التصميت حرّمت وكفّرت وحاربت كثيراً من المظاهر المعيشية المتوارثة، فأصابها الجمود والتحجر، لكن ذلك كان ظرفاً عاماً نال المدن والقرى والأرياف على حد سواء.
لقد أصاب مصطلح فولك لور تراثنا الأصيل بضرر كبير، فدلالات التعالي التي يحملها وحمولات الفصل الحاد بين الراقي المتطور والبسيط المتخلف التي انتقلت بفعل الترجمة إلى كلمة (شعبي) جعلت الناس ينظرون نظرة ترفع إلى كل مظاهر العيش القديمة والتي أجزم أنها ما زالت معنا. الرقصات الشعبية والأكلات الشعبية والأزياء الشعبية والقصائد الشعبية والحكايات الشعبية والأمثال الشعبية والألعاب الشعبية والأغاني الشعبية وكل ما التصقت به صفة الشعبية من ممارسات هي تراثنا الأصيل الذي ما زلنا نقوم به ونحياه ونعيشه.
حين نقول شعبي فإننا نعرف أننا، أي عامة الشعب من كبيره إلى أصغره ومن أغنى أغنيائه إلى كل فقرائه ومن متعلميه إلى بسطائه، جميعاً نحييه بكونه نمط حياتنا العصرية وليس بجمعه وتصنيفه ومتحفته وتسويقه سياحياً. كلمة (شعبي) لها مدلول سيئ قادم إلينا من ترجمة لفظة (فولك)، فنظنها تعني كل ما هو بلدي ومتخلف وعامي وحتى سوقي، لكن هذه الكلمة مجحفة في وصف تراثنا الأصيل الذي لا يترفع عليه فرد منا، يل ما زال يسمعه في داخل بيته وبين أهله وأجداده وحتى آبائه، ما زال الفرد منا يأكل ويشرب ويتكلم ويلبس ويغني ويرقص كما تعلم من أقاربه وأهله وجيرانه. تراثنا الأصيل ليس مادة فلكلورية بعيدة عنا زمنياً ولا مكانياً. مأثوراتنا ما ضاعت منا في خضم المدنية الجارف، بل هي في دواخلنا نحملها بحب ومودة، مأثوراتنا لم تمت حتى نحييها، علينا فقط أن نخرجها إلى حيز الوجود الرسمي وننفي عنها الصفة الفولك لورية ومرادفتها الشعبية.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com