وكنت أتمنى أن يكون عنوان هذه الرواية (ما وراء السدة) والسدة هو تعبير عن بناء يشبه السور، وكان هذا التعبير قد عرف في العراق بسبب الفيضانات التي كانت تداهم بغداد من كثرة المياه التي كانت تغرق نهري دجلة والفرات، وكان الناس يحاولون حماية بيوتهم ومزارعهم بأن يبنوا سياجا من الطين ويغلقوا المكان (يسدوه) حتى لا يتسرب الماء الفائض من النهر ويغرق بيوتهم ومزارعهم ومواشيهم، فتجد منطقة مثلا يطلق عليها (سدة الهندية) وهنا في هولندا حيث أقيم تكثر السدود لأن البلد مهدد بالغرق فهو يعيش تحت مستوى سطح الماء فتنهي أسماء مدنهم بكلمة Dam أي السد فميناؤهم يسمى روتردام وعاصمتهم الاقتصادية تسمى أمستردام وهكذا.
ثمة مدينة في وسط العاصمة العراقية بغداد لها تسميات كثيرة وهي الأخرى محاطة بسدة. وهي مدينة لها تاريخ مثقل بالفاقة والمشكلات التي يسببها الفقر وانعكاساته الاجتماعية والأمنية. هذه المدينة مزدحمة وهي أشبه بالعاصمة العراقية الثانية في محيط العاصمة بغداد. وهي وإن كانت جغرافيا في بغداد لكنها أشبه بالقسم الثاني الفقير. ومع وجود فارق اقتصادي بين العاصمة بغداد وهذه العاصمة المتعددة والمتغيرة الأسماء إلا أن هذا الفارق يكاد أن يبدو ضئيلا ليس بسبب ارتفاع المستوى المعيشي للمنطقة الفقيرة ولكن بسبب انخفاض المستوى المعيشي للعاصمة العراقية بغداد، ليس الآن بل منذ الحكم الذي (جيء به) للعراق في تموز من عام 1968
هذه المدينة كتبت عنها الروايات والقصص ولها تاريخ مزدحم يصعب المشي فيه أو أن المشي فيه ليس سهلا.. ثقافيا!
وهذه المدينة، هي حتى اليوم بلا معاهد ولا جامعات ولكن منها منحت (أكداسا) من شهادات الدكتوراه والماجستير. فبعد سقوط النظام البعثي ومجيء الاحتلال وانهيار مؤسسات الدولة سرعان ما طبعت الشهادات المدرسية وشهادات البيع والشراء وشهادات الولادة والوفاة وشهادات الدكتوراه والماجستير إضافة إلى شهادات المدارس الابتدائية والثانوية وكل بسعره. وفجأة قرأنا درجات علمية للكثير من المسؤولين العراقيين الذين تسلموا السلطة ولا يزالون فيها وهم يسبقون أسماءهم بحرف الدال (دكتور) ومذيعو الأخبار ومقدمو البرامج التلفزيونية مضطرون أن يلفظوا اسم المتحدث بالدكتور فلان.. وهذه المشكلة هي أحد مشاكل السلطة الحالية في الكشف عن عشرات الألوف من المسؤولين والموظفين الذين يحملون شهادات الدكتوراه المزورة أو شرطة وأفراد من القوات المسلحة أو من وزارة العدل وهم لا يحملون شهادة الابتدائية معنونة أسماؤهم بحرف الدال أو الماجستير. والشرطي الذي يجب أن يحمل في الأقل الشهادة الابتدائية وهو لا يحملها فإنه صار يحملها متخرجا من هذه المدينة الفقيرة وبامتياز.
عن هذه المدينة كتب القاص العراقي (عبد الله صخي) روايته التي عنونه ب (خلف السدة)
لا بد هنا من معرفة طبيعة هذه المدينة والتي حتى الآن أنا محتار في كتابة اسمها. فتاريخها وهذا ما تناولته الرواية وتناولت متغيراتها وجغرافيتها بطريقة تستحق الانتباه كرواية فيها الكثير من الوثائقية الممزوجة بالروائية الجميلة. لكن هذه الروائية التي سطرها الكاتب وكشف حقائق عن شخوصها وعن مستوياتهم الاجتماعية تمنيت أنا كمتلق يعرف المدينة وتثيره مواصفاتها للكتابة، تمنيت لو لم يتسرع في نشر الرواية. والكتابة عنها بصيغة فيها الكثير من التأمل، ولاسيما وبين يديه شخصيات يعرفها ويعرف مزاجها فهم من معارفه ومن جيرانه ومن مدينته. لقد بدت لي الشخصيات وهم أصدقاء المؤلف وهذه فرصة معرفية في بناء حياتهم، بدت لي وكأنها غير مكتملة البناء أو مكتملة التفاعل مع الحدث. هذا لا يقلل من أهمية الرواية كعمل أدبي جميل ولكن كانت لدى الكاتب فرصة أن يرتقي بالأحداث والشخصيات لتشكل عملا ثقافيا تاريخيا في تاريخ الأدب الروائي العراقي. ويبدو لي أن الكاتب كان كتب الرواية منذ سنوات أو أنه كتب خطوطها العامة ومسارها الدرامي منذ وقت طويل قبل إصدارها، وكان المؤلف قد سافر إلى أمريكا وعمل في مجال الإعلام التلفزيوني ثم عاد إلى بريطانيا حيث يقيم، وهو كاتب قصة قصيرة غادر العراق في نهاية السبعينيات مع الهجرة الكبيرة للمثقفين في ذلك التاريخ واستقر في بيروت سنوات طويلة وهناك أيضا مارس نشاطه الإعلامي والثقافي. وفي هذه الحقبة من الزمن أي ما بين تاريخ الهجرة في نهاية السبعينيات وبين تاريخ إصدار الرواية فإن متغيرات أخرى كبيرة حصلت على هذه المدينة، وحصل فيها انفجار سكاني كبير وعدد نفوسها الآن غير معروف، لكن سكانها هم أكثر بكثير من نفوس بلدان الخليج وبعض بلدان المغرب العربي وبعض بلدان الهلال الخصيب فهي مدينة أشبه بدولة بدون مدن.
من الضروي هنا أن نعرض جانبا من تاريخ هذه المدينة التي جسدتها الرواية.
كان أهل الريف العراقي أبان الحقبة الملكية من تاريخ العراق يعانون من شحة العيش تحت وطأة الإقطاع الذي كان سائدا آنذاك وكانوا يسمعون عن المدن وعن العاصمة العراقية، وكانت تسحبهم الأخبار إلى العاصمة ويغريهم وما يشاهدونه من الصور في الصحافة وما يسمعونه من الراديو وما قد يشاهدونه أحيانا من التلفزيون العراقي، أول تلفزيون ظهر في منطقة الشرق الأوسط.. تلفزيون بغداد. فصاروا يهجرون الريف وتأخرت الزراعة في الأرياف وبدأوا يتكدسون خارج العاصمة، يبنون أكواخا بائسة من القصب ويذهبون للعاصمة كعمال بناء يصطفون في ساحة الطيران في بغداد ينتظرون من يستأجرهم كعمال بناء. وكثر عددهم من المئات إلى الآلاف إلى عشرات الألوف إلى الملايين. وعندما حصل الفيضان في نهر دجلة ولأن المنطقة التي يسكنونها منخفضة عن مستوى العاصمة فقد أحاطوها بسد يقيها الفيضان، ومع الوقت تجمعت فيها المياه الآسنة (والرواية عرجت على هذا السد وما خلفه) وصارت تنبعث منها روائح كريهة بسبب المياه الآسنة والوسخة، وأصبحت رمزا للفقر وهي لا اسم لها ولمعرفة مكانها كان الناس يطلقون على المنطقة (وره السدة) أي (خلف السدة) وهو اسم هذه الرواية. عندما حصلت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وتسلم الحكم الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم وبدأ يتفاوض مع البريطانيين بصدد اتفاقية النفط العراقي وحصة العراق من النفط. وعندما جاءه الوفد البريطاني للتفاوض فإنه أخذ الوفد إلى (السدة) ووقفوا هناك فشاهدوا عالما واسعا من الأكواخ فوق المياه الآسنة ولم يتمكنوا من تحمل رائحة المكان فأخرجوا مناديلهم ووضعوها فوق أنوفهم فقال لهم عبد الكريم قاسم (الآن بإمكاننا أن نتفاوض فأني أفاوضكم من أجل هؤلاء) وسرعان ما هدم عبد الكريم قاسم الأكواخ وبنى لهم مدينة أطلق عليها لأول مرة اسم (مدينة الثورة) وعندما جاء صدام حسين للسلطة وبحقده على عبد الكريم قاسم أبدل اسم المدينة فأسماها (مدينة صدام حسين) وعندما بدأ الصراع السياسي يتفاعل في العراق وقتل رجل الدين العراقي محمد باقر الصدر وبعد سقوط صدام حسين أصبح اسم المدينة (مدينة الصدر)
هذه المتغيرات السياسية وعنف السياسة الذي اتخذ شكلا تصفويا انعكس على أحداث الرواية حيث المتغيرات السياسية وغياب الوعي والانتماءات المتسرعة وذات المنافع نجدها في رواية (خلف السدة) فما بين الأحداث العاطفية والأحداث الاجتماعية والهجرة من الريف إلى المدينة والمفارقات والفقر والأمراض والموت المبكر للشخصيات بسبب فقر الحياة، وبين عنف الأحداث السياسية تضعنا الرواية في مشهد إنساني كبير يؤرخ حقبة من تاريخ المدينة ومن تاريخ العراق، ومع أني لم أتقطع في قراءة الرواية ولم أركنها كثيرا بل تابعتها بتشوق وهذه ميزة تسجل للمؤلف إلا أني كنت أتوقف أمام بعض الشخصيات الرئيسية وأنظر إليها نظرة بنيوية سينمائية تدفعني للعتاب حينا وحينا آخر إطلاق صرخة (ستوب - إعادة) كما أعمل في تنفيذ المشهد السينمائي الذي لا يؤدى بشكل صحيح، كانت الأحداث التي جمعها المؤلف والشخصيات التي يعرفها والتي رسمها وجمع مواصفاتها ومعرفته التي تبدو لي قائمة على معايشة للمدينة وفرت له حرية واسعة من التعبير والوصف الدقيق للمكان وهو مكان متشعب ومعقد جغرافيا واجتماعيا لكنه مثل الكثيرين منا ما أن نسطر رواياتنا على الورق حتى نريدها مطبوعة بالغلاف، لكن الرواية والعمل والأدبي ما أن يخرج من الدرج سابقا ومن الحاسوب لاحقا ويذهب باتجاه المطبعة حتى يخرج من فرصة التأمل والتصحيح ومن هيكلية البناء.
الرواية جميلة وممتعة للقراءة ولكن هذا لا يكفي وحده، فربما قرأتها أنا بحكم الصداقة والمعرفة ولا أدري لو لم أكن أعرف كاتبها هل أقرأها وأبحث عنها وتدعوني هي من خلال أن تفرض نفسها على المكتبة وعلى القارئ بنفس الحماس الذي قرأته. فأنا الآن أركن الصداقة جانبا وأتعامل مع الرواية كنص لأقول.. كان يمكن لهذا العمل أن يتألق في عالم الرواية العربية لو لم تكن رغبة الطباعة السريعة هي الحافز.. نحن بحاجة إلى حافز الإبداع وليس إلى حافز النشر لأن حافز النشر مغر كثيرا ويوقعنا أحيانا في السهولة.
عبد الله صخي كاتب قصة قصيرة متميز بين كتاب القصة القصيرة العراقية وانتقاله من القصة القصيرة إلى الرواية هي نقلة ثقافية مهمة لا تقلل من أهمية القصة القصيرة في مجال الإبداع ولكن كتابة المطولة الأدبية الدرامية تحتاج إلى نفس صبور، ولكن لأنها طبعت فإن الأمنية التي تتيح فرصة سبر أغوار هذه المدينة الفقيرة بعالمها الغريب والمؤلم والمحفز للكتابة.. هذه الأمنية تلاشت عندي بعد أن أصبحت الرواية مطبوعة ومعروضة في سوق المكتبات وقرأتها وتمتعت بقراءتها. مشكلتي أنني أقرأ بعين سينمائية والعين السينمائية في القراءة مشكلة لأن فن العمارة (البناء) هو أحد الأركان السبعة للرواية السينمائية وللفن السابع.
سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@ziggo.nl
هولندا