استيقظت من نومي مبكراً في أحد أيام شتاء عام 1994 في عاصمة خليجية ووجدت نفسي قد أصبحت مفكراً! أي والله مفكر.
أما الحكاية فهي أنني كنت ضيفاً على منتدى ثقافي وكان اسمي يكتب مع المدعوين في الصحف وبطاقات الدعوة وغيرها. وفي الصباح وجدت أحد الأصدقاء يضحك على غير عادته ويقول لي مبروك يا خالد.. لقد أصبحت مفكراً.
تصورت أن الصديق يمزح لأول مرة في حياته لكنه أكد لي أن موضوع المزاح مؤجل في حياته إلى وقت لا يعلمه إلا الله. المهم فتح لي إحدى الجرائد وقرأت فيها خبراً طويلاً منشوراً في صفحة داخلية، وكان اسمي موجوداً من ضمن المكتوبة أسماؤهم من الحاضرين للمنتدى وأغلبهم مثقفون كبار ودكاترة جامعات من الوزن الثقيل ومفكرون طبعاً. ووضعت الجريدة اسمي وقبله كلمة المفكر وهكذا أصبح: المفكر خالد البسام!
وضحكت مع الصديق على كلمة المفكر وعلى هذا اللقب الخطير الذي منحني إياه محرر ثقافي لم يتعب نفسه بالتعرف عليّ، فقام واستسهل الموضوع وقال بما أن هذا الرجل قد دعي مع هذه النخبة الكبيرة فهو لا بد أن يكون إما دكتوراً كبيراً أو مفكراً حتى ولو مفكراً صغيراً.
هذه الحكاية الطريفة، التي لم تجعلني مفكراً حتى الآن، هي نموذج واحد على الاستسهال الذي يجري في حياتنا الثقافية والصحافية وربما في الميدان التعليمي وغيره.
فالألقاب توزع لمن يشاء، والشهادات و بعض رسائل الدكتوراه والماجستير الرخيصة تباع أحياناً لمن يريد ولمن يدفع. والنفاق منتشر في تلك الأوساط فهذا مفكر عظيم وذاك ناقد خطير وآخر مثقف كبير. واختلطت الأسماء المحترمة والراقية بالأسماء التافهة والمتواضعة، فصار الجميع قامات مهمة وأسماء كبيرة ولا يوجد مبتدئون في الساحة. فإذا كتب كاتب بسيط اليوم رواية طبع على بطاقة تعريفه غداً: الروائي فلان. ولا ينتظر حتى أن يصدر ثلاث أو أربع روايات لكي تقول عنه الناس إنه روائي. فهو مستعجل ولا يريد أن ينتظر لا القراء ولا النقاد.
اليوم لن يحاسبك أحد ولن ينتقدك أي شخص إذا قلت عن نفسك: أنا مفكر. فالألقاب ودرجات الرقي والمكانة صارت رخيصة جداً، ولا تحتاج إلى واسطة أو ثقافة أو تأليف عشرات الكتب أو كتابة مئات الدراسات.
الآن يمكن لأي مثقف أن يختار ما يشاء من ألقاب ومن درجات ومن مكانة ولن يجد حتى من يسخر منه أحد، فهو حر في أن يقول لك: أنا الدكتور المفكر والكاتب والروائي والشاعر والناقد والمسرحي والفنان فلان الفلاني.
وعندما تسمع كل هذه الألقاب على شخص واحد تقف وتسأل نفسك: ماذا أبقيت إذن لبقية الناس وللمثقفين؟
albassamk@hotmail.com
المنامة