على الكرسى المقابل لصفحة التلفاز المقيم في صالة العيادة جمعت أعضائي، محاولاً إحراق الوقت ومستسلما للانتظار..لم أنس تلاوة سورة البلد وبعض الآيات والأذكار التي حثنا عليها الرسول الكريم تفريجا للكرب، ختمتها بدعاء مستجاب إنْ شاء الله.. شق البطن وإخراج روح من روح لا جزاء له إلا الجنة، هذا ما تعلمناه.
اِدعيت الاِنشغال بالقنوات المختلفة حتى تخرج زوجتى بسلام من غرفة الجراحة، أعبث بجهاز التحكم الآليّ، ولكن الروتين التلفزيونيّ رتيب وممل حتى في عيادات الجراحة الخاصة.
تجولت في الشرق والغرب، وأخيراً ثبت التردد على نافذة حمراء، تنزف بالطول وبالعرض، استوقفني التحذير الأحمر.. ننصح مرضى القلب والأعصاب بعدم المشاهدة نساء محتشدات ينددن هنا وهناك، وثمة أطفال عزل منزوعي اللحم وعظم الترقوة، واستغاثة مدوية نقشت على لافتة:
(الرافدين يا..)
وأخرى تسغيث بهن:
(الفرات يا..)
خفق قلبي وأحسست بماء ساخن ينز، ورحت بغداد وكان الشيخ عليّ يفتح باب غرفتي بهدوء وحقائبي المنتفخة متأهبة وقد صفت جنباً إلى جنب، سألني وهو يكشف عن أسنان تؤكد حرصها على استعمال السواك، فأوضحت له:
الكبيرة لأمي والأخرى لزوجتي وتلك الصغيرة لأصدقائي..وكل ما ترى هو من خيركم شيخ عليّ..من خير العراق.
فربت على كتفي وقال بلهجة عراقية أحببتها مليئة بطعم دجلة:
لا تقل..بل هذا تعبك ومجهودك.
ثم احتضنني ودس في جيبي مظروفاً متورماً به تذكرة ومبلغ من المال وأعاد:
التذكرة ذهاباً وعودة..لا تنسَ سأنتظرك.
عشقت هناك الطعام والكتابة، ولفحات البرد على غير أوان، عشقت الزيتون والتمر، كان لزخم الحياة مذاق خاص وأنا أسير في الأسواق..آهٍ آه سأمنحك حياتي كلها لو أرجعتني أعيش ليلة واحدة هناك يا كل عاشق لطميها..عشقت شخصية الشيخ عليّ السهل الممتنع، ومكتبته الزاخرة بأمهات الكتب والأقلام الفاخرة، راقت لي أربع كلمات مخطوطة بيده على لافتة عتيقة برسمة كوفية، لصقها في مقابل الباب حتى يتمكن الزائر من قراءتها
(أمي وزوجتي وبغداد والفرات)
ما فهمتها وما سألته عنها، بل كانت جميلة واعتدتها.
سقط جهاز التحكم من يدي وأنا أفكر في الكلمات والرجل..هل انتظر عودتي طويلاً؟ ترى ماذا يفعل الآن وكيف يجاهد من أجل مكتبته والكلمات؟! سامحني يا رجل لم أكن معك.
تتوالى الصور بأوجاع وتهدم..الشوارع رامدة بآدميين متفحمين وجثث لعذارى وأمهات، وأنات نابعة من تحت الأنقاض تعلن وجودَ أرواح وتعيب النخوة الضائعة.
غامت عيني بماء مملح به حرقة، وجف حلقي، وخرجت سيدة تفوض أمرها إلى الله وتمرغ وجهها في صدر رضيعتها المقذوفة، والغرف المتناثرة بهمجية تنم عن وحشية بهيمية!!
فانطلقت مني زفرة حارة تئِنّ بوجع في القلب حينما رأيت وجهه الدامي يملأ العدسة، وترصده الكاميرات من كل نواحيه..صرخت بارتجاف وانتفض جسدي المرتعش وتبعثرت أعضائي:
- شيخ عليّ..شيخ علي. ولكن صدره المثقوب بقذيفة الخنزير الأبيض منعه من الإجابة..احتضنته..ضممته إلى صدري..مرغت وجهي في شيب لحيته البيضاء وتنفسته، استحلفته أن يسامحني ودنوت إلى رأسه أقبلها وأشم فيها أيام بغداد وامتزجت دموعي بدمه، ونظرت إلى عينيه الدامعتين,كانت تنظرني وشفتاه تتحركان بكلمات مكتومة لا صوت فيها، لكنني أدركتها كان يذكرني:
- انتظرتك كثيرا..لا تنسَ كانت التذكرة ذهاباً وعودة، اِرجع يا بنيّ. ثم أطلق شهقة اقتلعت روحي معه، ومالت رأسه إلى جهة اليمين كأنما يلقي آخر نظرة تستقر على لافتة كانت مطروحة بجواره، مرسومة بخط كوفيّ:
(أمي وزوجتي وبغداد والفرات)
سرت القشعريرة في جسدي، واختلط دمعي ثانيةً بحروف اللافتة وأحسست باهتزازة حادة تملكتني، ويدٍ حانية تجفف وجنتي ملطفة:
- لا تبكِ يا ولدي، زوجتك بخير..وضعت طفلة جميلة..هيا اختر لها اسماً.
فانطلقت مسرعا وقلت لها وأنا أردد:
بغدااااااااااد...
بغدااااااااااد