يحاول الانكماش على نفسه. المنشفة التي أعطيت له لم تغط جسده بالكامل. بجواره كوب من الشاي الحار، بالكاد كان يخرج يده ويرتشف منه على عجل. لم يتفقد المكان كثيراً، ولم يطل النظر في الوجوه التي تشاركه الرحلة. كلماته كانت قليلة وفي الغالب كان يكتفي بالإشارة.
عندما وقفوا بجوارها لم يكونوا منتبهين لوجوده على سطحها، ولكن طبيعتها استحقت التوقف، والتقاط الصورة التذكارية. بدت له أيضاً وهو ينظر إليها الآن من بعيد جميلة، وساحرة. لم يتبين له هذا الجمال إلا الآن. فعندما بانت له في المرة الأولى كانت القشة التي تعلق بها، دون البحث عن تفاصيل. «فالجمال لا ينجي من الموت، إنه قادم لا محالة». كهذا كان يردد بيقين.
- ما أسمك؟
- بالكاد ألتفت إليه. رمقه بنظره ثم غرس عينيه في الأرض. الأسماء لم تعد تسكن ذاكرته. ولكن فكرة الموت والحياة هي من يجيدها الآن. يعرف أن من لا يجيد السباحة سوف يموت في عرض البحر. يعرف أن من لا يجيد الصيد سيموت جوعاً والسمك أمامه يتراقص. يعرف أن من لا يستسيغ الطعام من دون ملح فلن يهبط عليه الملح من السماء. يعرف أن من لا يجيد إشعال النار لن يحظى بالدفء في فصل الشتاء. يعرف أن من لا يجيد صنع آلة حادة لن يستطيع الدفاع عن نفسه عندما تهاجمه الوحوش. هذا ما يعرفه، هذا ما تعلمه، هذه محصلته الآن. أما الأسماء فهي لا تنفعه في جزيرة لا يسكنه أحد غيره.
استجاب لرغبة ذلك الهرم الذي غمره بابتسامة أبوية لطيفة، بأن يتمشى قليلاً. شعر بألم شديد يسكن باطن قدمه. الأرضية الملساء بدت له كالدبابيس تنخر عظمه. بصعوبة، وصل إلى طرف السفينة. المشهد الذي أمامه مألوف. بحر على مد النظر، وجزيرته بدأت تبعد بعض الشيء، وطيور النورس تحلق من فوقها بكثافة.
- لو كنت مكانك لبقيت هناك إلى الأبد
تتبع أثر الصوت، فوجد فتاة شقراء لا يغطي سؤتها إلا خرق ملونة، تشبه إلى حد كبير ما جمعه من بقايا بالية على تلك الجزيرة ليستر بها نفسه. رفع رأسه، ولاه للبحر، متعجباً من أشهر قضاها لا يرى فيها حتى نفسه، كيف أنها كانت كفيلة بأن تنسيه أجمل شيء بالدنيا.. وهن النساء!. بدأ له الأمر غريباً بعض الشيء، فما الذي يجعل هذه الفتاة تستلقي على ظهرها متعرية دون أن تبالي بأنه يقف بجوارها؟.
- تساءل بينه وبينه نفسه، هل ينظر إليها ويستسيغ المنظر كما يستسيغه كل الرجال الذين يعبرون من أمامها؟ ولكن أين ذهب حياءها؟. زم شفتيه، محاولاً اتخاذ القرار المناسب، ولكن الصداع هجم عليه فجأة وألجمه، فأنشل تفكيره.
اجتاحته رجفة من منظر ركاب السفينة لما هبوا هبة واحدة للاحتكاك ببعضهم سعداء، متمايلين على أنغام موسيقى صاخبة. الكل يبحث له عن شريك يراقصه. نساء ورجال خرجوا من القبو عراة كأن بهم مس من الجان. يقف لوحده. يتأمل المشهد الذي يراه للمرة الأولى، حيث لم ير في رحلته التي غرقت شيء كهذا.
وسط هذا الزحام، وذهوله الذي لا ينتهي، صرخت الشقراء طالبة إياه لرقص، فتوقف الجمع وراحوا يصفقون له لكي يتقدم. كأنه شجرة سدر لها مئات السنين، لم يتزحزح من مكانه. صاحت الفتاة ثانية، فأعرض وكأنه لم يسمع شيئاً، وأن الأمر لا يعنيه.
ـ من الواضح أنه خجل، من يتجرأ منكم على جلبه لي؟
- ضجت السفينة بالصراخ. فمدوا أيديهم وتقدموا نحوه بوجوه ضاحكة مسرورة. فتراجع للخلف حتى ارتطم بحد السفينة الحديدي ولم يعد قادراً على الهرب أكثر. ماجت السفينة، واهتزت بعنف، وهم ما زالوا يواصلون المسير. أعتقد أنه وحده من سمع صوت القبطان وهو يعلن أنه هناك حالة طارئة ويجب عليهم أخذ الحيطة والحذر، والاختباء في غرفهم. تلفت بوجل ينظر في وجوههم، فلم يلحظ عليهم أي بادرة خوف، وكأن الأمر لا يعنيهم.
في لحظة خاطفة، أعطاهم ظهره، أمسك بحد السفينة الحديدي جيداً، رفع رجليه ودفع نفسه بقوة إلى عمق البحر، وراح يسبح.. عائداً من حيث أتى!.
-