-1-
لم أكنْ حفياً على ضفافِ الأزمة البحرينية بمتابعة الخطابين (السياسيّ) و(الدينيّ)، مثل حفاوتي بالخطابِ الثقافي البحريني؛ لجملة أمور، أهمُّها اثنان:
الأول: أنّ الأزمةَ التي حلَّت بالبحرين وأهلها أزمةٌ مصيرية، نستطيعُ أنْ نسمِّيها أمَّ الأزمات ولا نبالي، وكيف لا تكون كذلك وهي تستهدف الكيانَ الأمكنَ وتغتالُ المصير؟! وحين تحلُّ بساحة قوم أزمةٌ بهذا الحجم فإنَّها تعدُّ فرصةً ذهبية لقياس تفاعل المثقف مع الحدث من جهة، وامتحاناً يحدِّد درجةَ انتمائه إلى وطنه من جهة أخرى، ويثبت صدقيَّة مواقفه السابقة أو ينفيها من وراء هذه وتلك.
الثاني: أنَّ البحرين أكثرُ دول الخليج انفتاحاً على التيارات والتنظيمات السياسية الموالية والمعارضة، وأقدمُها معافسةً لمفردات حقوقية جزئية أو عامة - ديموقراطية، وليس هناك اختلاف معتبر في أنَّ البحرين أسبق الدول الخليجية إلى تقنين العمل الثقافي بمفهومه الواسع، وأكثرُها قرباً من التعدّدية الإيجابية خاصة بعد الخطوات الإصلاحية التي شهدتها الألفية الثالثة، والتي حظيت بثناء تكتلات مهمة كالمعهد العربي لحقوق الإنسان 1989م.
لأجل الأمرين السابقين تأخذ قراءةُ أحداث البحرين أهميةً كبيرةً على المستويات كلِّها، ويأخذ موقعُ المثقف منها أهميةً أكبرَ بالنسبة إلى مثقفي الخليج؛ لأنّ تراجعَه يعني بالضرورة تراجعَ من هم دونه، أو من هم متأخِّرون - بالنسبة إليه - في التعاطي مع مفردات الهمّ الحقوقي، فضلاً عن ممارستها في جمعيات أو أحزاب، وهذا ما أحاول مقاربته في هذه المقالة.
-2-
في كلِّ أزمة يتعرض لها قطرٌ عربي يبرز على السطح مفهومُ المثقَّف الصامت؛ ليُعبّر به عن ثلة من المثقفين التزموا الصمتَ إزاءَ موقفٍ لا يُفسّر الصمتُ إزاءَه إلا على أنه نوعٌ من أنواع الخيانة (تقول السعدية الفضيلي)، لكنّ استخلاصَ خيانة المثقف من صمته يحمل في داخله نفياً للصمت نفسه، وهذا النفي هو ما دفعني إلى اختيار تركيب وصفي آخر هو (الخطاب الصامت)، وحين أُحلُّ هذا التركيبَ محلّ (المثقف الصامت)؛ فلأنّ المثقّف لا يمكن أنْ يكونَ صامتاً (بالمعنى الوظيفي للصمت)؛ لأنّ الصمتَ يتناقض تماماً مع أبرز خصائص المثقّف، ألا وهي النزعة النقدية (يقول زكي الميلاد)، التي ترتبط بوظائفه ومهمّاته، وتميّزه في النشاط من الفاعلين في حقول الدولة والمجتمع، وهذه النزعة ليست وقتيةً وإنما هي مستمرّة ولازمة، ترتبط بالمثقّف وجوداً وعدماً؛ لذلك لا يستطيع التخلّص منها إلا إذا تخلّص من نفسه ومن ثقافته أو انتمائه الثقافي.
على هذا الأساس يظلّ المثقّفُ في حالة تبنٍ خطابي مستمرّ، فهو إما أنْ يتكلّم فيقدّم خطاباً صائتاً يمكن إنماؤه وتصنيفه بمجرّد القراءة، وإما أنْ يصمتَ فيقدّم خطاباً صامتاً، تؤخذ دلالته من الحقل الذي استثمره وأفاد منه.
ولا يجوز لنا أن ننظرَ إلى صمت المثقف - والحال هذه - على أنه صمتُ الحائر، أو صمتُ العاجز عن فهم ما يحدث؛ لأنّ المثقفَ ينطوي على ركام معرفي، يجعله أكبرَ من نفسه (لإحاطته بحيوات متعدّدة)، وأكبرَ من حدود وطنه وقضاياه؛ كونه يملك نوافذ مفتوحة على ثقافات ضاربة في عمق سحيق من الماضي...، وما من شكّ في أن فهم الماضي طريق إلى فهم الحاضر وكشف ملابساته والتباساته، وهما معاً (الماضي - الحاضر) طريق إلى تصوّر المستقبل، مهما توارى أو تخندق.
المثقف - تبعاً لهذه الرؤية - أقدر من غيره على انتهاك الضمائر المحمية، واستدراج الواقع إلى بؤر اعتراف وانكشاف، وجمع الأدلة، وقراءتها، واستشراف ما يمكن أن تؤول إليه الحال، ووظيفته محددة بقيادة الزمن على المستوى الذهني.
-3-
وإذا كنا ننفي عن المثقف البحرينيّ الصامت ما يسوِّغ له صمتَه أمام اهتزاز المصير، ونعطي صمتَه - تبعاً لذلك - سمة الخطاب، فإنه يكون لزاماً علينا أنْ نبحثَ عن دلالة خطابه الصامت من خلال تتبّع المحطات التي مرّت بها الأزمة.
لقد ابتدأت أحداث البحرين مما هو مشروع (حيث المطالبة بقنوات تكفل العيش الكريم)، لكنها انتقلت - في أيام معدودة - إلى محطات أخرى، تجلت فيها المطالبات المشروعة دعوات إلى إسقاط النظام، وانتقلت فيها لغة المطالب من (سلمية... سلمية) إلى لغة عنف وإرهاب وانقلاب، وبدا واضحاً لكلّ أحد الدعمُ الإيراني للفوضى في البحرين، إلى الحدّ الذي يصرح فيه مسؤولون كبار في الحكومة الإيرانية بعدم السكوت إزاء ما يحدث في دوار اللؤلؤة.
نحن إذن أمام دعوات نامية (شبكية) وليست مسطّحة (جاهزة) بحيث يسهل فهمها، وأمام متكأ خارجي بدأت أطماعه في البحرين من لحظة استقلالها، وأمام معطى مادي يدلُّ على أنّ هناك اختطافاً كاملاً للقضية، يخرج من دائرة محدودة إلى دوائر واسعة: دينية وسياسية وثقافية.
أمام هذه الصورة تغيّر الخطاب الديني، فالشيخ القرضاوي الذي قدّم أجرأ خطاب ديني على هامش أحدث (تونس) و(مصر) و(ليبيا) و(سورية) صنع خطاباً آخر للتعامل مع القضية البحرينية، خطاباً مختلفاً يضارع اختلاف الوضع البحريني، وكذلك فعل الخطاب السياسي؛ فإذا كانت (كلينتون) اعترضت من مصر على مشاركة درع الجزيرة فإنها عادت لتسوِّغ هذه المشاركة من باريس، وهذا التغيّر يعني أن هناك متغيّرات متسارعة على الساحة البحرينية، تستدعي تغيراً مستمراً على مستوى الخطاب الذي يتابعها، انتهى بالمتابع إلى استثناء ما يحدث في البحرين من جملة الأحداث التي يشهدها العالم العربي.
في ظلّ وضع كهذا يصبح من الصعب الاقتناع بسلامة المقصد من وراء صمت المثقفين؛ لأنّ المثقف أكثر حرية من (الديني) و(السياسي) في ممارسة العملية الفكرية، ولأن التغيّر الذي شهده الواقع من الوضوح بحيث أمكن فهمه من خطابات دون الخطاب الثقافي مرتبةً، وأقلّ منها حرية واستقلالية كالخطاب السياسي مثلاً.
من هنا تسقط المحاولات التي تبرِّر هذا الصمت، ويبقى الصمت نفسه خطاباً، لا يحمل سوى دلالة واحدة، هي الخيانة؛ لأنّ صمت المثقف يعني بالضرورة تقاعسَه عن سدّ ثغرة تُسند عادةً إلى مثله، وهذا التقاعس يمنح العدوّ (أو العدو الصديق) مسافةً تمكنه من تسجيل خطوة أو خطوتين إلى الأمام، وهذا ما حدث بالفعل.
من وراء الفوضى التي شهدتها البحرين كانت هناك هجمة إعلامية تصبِّحها وتمسِّيها، تأخذ مادتها التحريضية من التاريخ والجغرافيا والعقيدة والمجتمع، أي من قنوات لا يمكن معالجتها إلا بعقلية المثقف، ورغم ذلك كلّه صمت المثقف، والصمت في هذا السياق إقرار من الطراز الأوّل.
إنه خطابٌ صامتٌ، تبناه بعض المثقفين في البحرين، فخانوا به أنفسَهم، ووطنهم، والقضية، وأعني هنا من كان إلى وقت قريب من بداية الأحداث يغني للحكومة ويرقص لها طرباً (تقول ضياء الكعبي).
ولذلك فإنّ أيّ حركة إصلاحية لا تأخذ في حسابها معاقبة هؤلاء الخونة، تظلّ حركة مشوبة بالنقص، وهذا ما انتبه إليه الملك عبدالله عندما تعرضت بلادنا لموجة الإرهاب؛ فقدّم خطاباً يساوي بين عقوبة الصامتين عن إدانة الإرهاب وعقوبة المنخرطين في خلاياه.
-
Alrafai16@hotmail.com
-الرياض