«العلوم كثيرة، والحكماء في أُمم النوع الإنسانيّ متعدّدون؛ وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر ممّا وَصَل، فأين علوم الفُرس، التي أَمَرَ عُمَرُ -رضي الله عنه- بمحوها عند الفتح؟ وأين علوم الكِلْدانيّين والسُّريانيّين وأهل بابل، وما ظَهَر عليهم من آثارها ونتائجها؟ وأين علوم القِبْط ومَن قَبْلَهم؟ وإنما وَصَل إلينا علوم أُمّةٍ واحدةٍ، وهم يونان خاصّة، لكَلَف المأمون بإخراجها من لُغتهم، واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها. ولم نقف على شيءٍ من علوم غيرهم».
هكذا يتحدّث (ابن خلدون)(1)، في «طبيعة العمران في الخليقة»، مستبعِدًا- بفكر العالِم المتورّع عن إطلاق مصادراته- أن يكون (عِلم التاريخ والاجتماع) «مستنبطَ النشأة». مشيرًا إلى ضياع علومٍ كثيرة من التاريخ البشريّ، إمّا بفعل الزمن أو الطبيعة أو الإنسان. وتصوُّره هذا يفتح باب الاحتمالات والتأويلات فيما اندثرت عنه الوثائق من تاريخ وتراث. ونحن، طلبةَ العلم، إنما نبغي الحقيقة، ولو على سبيل الرُّجحان، ومهما كانت، عذبةً أو مرّةً، بقطع النظر عمّن جاءت. وينبغي، إذن، أن نحترم جميع الاجتهادات البحثيّة، وإنْ صادمت معتقداتنا الموروثة، أو مسلّماتنا القارّة، شريطةَ أن تأتينا وفق منهجٍ علميٍّ تحقيقيٍّ، يحترم العقول، ويمحّص المعطيات الموضوعيّة، ويُحسن البرهنة والاستدلال، لا أن يتسنَّم مَن بضاعته محض خواطر شخصيّة، وافتراضات أعشى، وتهويمات نشوان، لردِّ التاريخ المعروف جملةً وتفصيلاً، وإنكار السِّيَر والأخبار والآثار!.
إن تلك التحليلات التاريخيّة التي دشّنتها (جمعية التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة) في البحرين- وتحدّثنا في المقال السابق عن مشروعها باسم (مشروع السراة)- إنما تأتي أشبه بحكايات شعبيّة، وخيالات أسطوريّة، تذكِّرنا بما خَرَج على الناس به (كمال الصليبي) منذ عِقْدَين من السنوات في كتابه «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل». وكان الصليبي قد أشار فيما أشار إليه، على سبيل المثال، إلى مواضع في جبال فَيْفَاء، وأحال إلى أسماء بيوت معيّنة، فجاء في ذلك بما يُضحك الثكلى من التأويلات؛ لأن أهلها يعرفون المواضع التي أوّل تسمياتها، وبعضها هُم مَن عمروها، أو سمّاها آباؤهم بتلك الأسماء، وبعض الأسماء لهم وراء اختيارها قصص وأسباب. ومن ثَمَّ فلا علاقة لها لا بالتوراة ولا بالإنجيل، لا من قريب ولا من بعيد، ولم يسمعوا طبعًا بما ساقه الرجل من ادّعاءات تاريخيّة، ظنّها اكتشافات خارقة. أضف إلى ذلك وجود أسماء متشابهة لأماكن مختلفة، متقاربة أو متباعدة، ما يجعل الاستناد إلى اسم المكان مضلَّةً في الحُكم التاريخيّ، وَقَع فيها قبل الصليبي شُرّاح الشِّعر العربيّ قديمًا، ثم أخذ ذلك عنهم البلدانيّون، قديمًا وحديثًَا، مستقرئين جغرافيا الجزيرة من خلال الشِّعر، ليربطوا بين أماكن لا رابط بينها أحيانًا إلاّ تشابه الأسماء. بيد أن مضلَّة تشابه الأسماء لدى أولئك المؤوّلين الجُدد يتعدّى الأسماء العربيّة إلى الأسماء في اللغات الساميّة كلّها؛ لتَؤُوْل لديهم أحداثُ التاريخ إلى قرى وجبال هنا وهناك من الجزيرة العربيّة، ليس إلاّ لأن أسماءها تشبه من بعيد أو قريب أسماء تاريخيّة قديمة في مِصْر أو بلاد الشام! مثال ذلك أن هناك في جبال فَيْفَاء -ممّا دندن حوله الصليبي- مكانًا اسمه (الدَّثْنَة)، أولاه حمولات من الافتراضات، فيما هناك ثلاثة مواضع بالاسم نفسه: أحدها في جبل آل الثويع، وآخر في جبال آل أبي الحَكَم، وموضع ثالث في منطقة تسمى (الدَّفْرَة). وأسماء كتلك موجودة أيضًا في اليمن، أو الحجاز، أو الشام. ومن هنا فإن منهجًا يبني استنتاجاته على أسماء المواضع وحدها إنما يُقدِم على مجازفة، تقوم على غير دليلٍ علميّ، أو حتى منطقيّ. وبذا لم يَعْدُ كتاب الصليبي اجتهادًا ينهض على ضربٍ من التأويل الجغرافيّ، متلكِّئًا بين دلالات الجغرافيا وجغرافيا الدلالات، ومنطلقًا في ذلك من الخرافة التاريخيّة إلى التخريف الجغرافيّ، أو قل (من التأويل الخرافيّلتاريخ إلى التخريف التأويليّ للجغرافيا). وذلك ما لا يصمد عند الفحص، لا على أساسٍ علميّ، ولا على منهجٍ تاريخيّ، ولا حتى عقليّ، وإنما ينبع عن مخيّلة بدائيّة خصبة، وغير عِلميّة، وإن اشتغلت بالعِلْم، تحمل استعدادًا فطريًّا للتسليم بما تتوهّم لأدنى قرينةٍ ظاهريّةٍ تتراءى لها، وتتمتّع بتخييل واسع يتمخّض عن محاولة في أرخنة الأساطير، أو أسطرة التواريخ، ساعيةً إلى إضفاء جديدٍ باهرٍ في قراءة التاريخ من خلال بعض التأوّلات الشخصيّة للنصوص، أو الاستقراءات اللغويّة القاصرة للأسماء، والافتراضات الجغرافيّة غير المنهاجيّة، تحدوها في ذلك جرأة غير منضبطة على إطلاق الأحكام وترويج الاستنتاجات، دونما مقدّمات تسوغ نتائجها، أو حتى تُقنع بها درجة ً من الإقناع.
ولم تَذكر أبحاثُ (جمعية التجديد الثقافيّة الاجتماعيّة)- في حديثها عن مِصْر والفراعنة وأنبياء بني إسرائيل وآدم- جبال فَيْفَاء، كما فعل الصليبي من قبل. هذا على الرغم ممّا عَثَر عليه أبناء المواطن محمّد يحيى جبران الشراحيلي، في أحد أودية قرية جوّة آل شراحيل بمنطقة فَيْفَاء، من تمثالٍ فرعونيّ صغير للملكة (حتشبسوت)، والمنشور تقريرٌ عنه في (جريدة الرياض)(2)، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، تحت عنوان «الملكة حتشبسوت تَظهر في فَيْفَاء، وأن المجسّم يُثبت الصلات التجاريّة مع مِصْر القديمة»(3). لم تعرّج الجمعية على ذلك، ربما لتَنَبُّئِها بما تنبَّأت به هيئة المساحة الجيولوجيّة السعوديّة مؤخَّرًا، وروّعت به المواطنين، في تصريحاتها الواثقة والمندفعة العجيبة بأن جبال فَيْفَاء معرّضة لمخاطر الانهيار، لا لشيء سوى أنها حَدَثَت فيها بعض انزلاقات جرّاء الأمطار، في ظاهرة نعرفها منذ عرفنا جبال فَيْفَاء، وإنما زادت وتيرتها بسبب تلك الطرق التي شُقّت على غير هُدى، ونُفِّذت بأساليب بدائيّة جدًّا، نوفست فيها أشدّ الدول فقرًا في العالم؛ بلا تصاميم تُذكر ولا صيانة تُشكر، ولا يحزنون. إلى ما صاحب ذلك من تلغيمات، وتفجيرات صخور، ما زالت مستمرّة إلى اليوم، بل أكثر من ذي قَبْل، من قِبَل بعض الشركات المنفِّذة، دونما تنبيهٍ الناس-أحيانًا- تجنّبًا لحدوث إصابات أو تلافيًا لحالات الفزع بينهم، على الأقل(4)! هذا إلى جانب تجريف الأراضي، وزحزحة الكُتَل الصخريّة الهائلة عن مواضعها، أو إلقائها إلى المنحدرات عشوائيًّا، هنا وهناك. وتزيد الطين بلّةً بنى تحتيّة، لا وجود لها أصلاً، فلا شبكة صرفٍ صحيٍّ، ولا تصريف سيول، ولا تخطيطًا بلديًّا أو عمرانيًّا! فكيف لا يحدث ما حَدَث، أو ما سيحدث؟! الأمر إذن ليس في حاجة إلى عبقريّات المساحة الجيولوجيّة! حَدَثَت انزلاقات طبيعيّة في بعض الأماكن، ولاسيما المجاورة للطُّرق -وبسبب تنفيذ تلك الطُّرق على ذلك النحو الفوضويّ، بصفةٍ رئيسة(5)- إلاّ أن هيئة المساحة الموقّرة اكتشفتْ أخيرًا أن لا مسؤوليّة البتّة، لكائنٍ من كان، في ما حدث ويحدث أو سيحدث، لا سمح الله! وإنما تقع المسؤوليّة -حسب رؤيتها- على عاتق عاملٍ جيولوجيّ ناجمٍ عن تمدّدات هنالك في البحر الأحمر، أو حتى عن تصدّعات في القارّة الأفريقيّة، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.. يمهل ولا يُهمل! ومهما يكن من أمر، فإن تلك النبوءةبما سبق علمها لدى جمعية التجديد المشار إليها، فحرمت جبال فَيْفَاء من شرف ما ساقته حول تاريخيّة جبال السراة! أو ربما صحّ العكس؛ إذ لو كان ثمّة تواصل عِلْميّ بين هيئة المساحة الجيولوجيّة وجمعية التجديد، وهذه فرضيّة خياليّة، إذن لتبيّن الحقّ من الباطل، ولاتّضحت رؤية الهلال، ولعَرَفَتْ الهيئةُ أن جبال السراة، عمومًا، موجودة منذ خلق الله آدم عليه السلام، بل قبل خلق آدم، وأن الجنّة كانت فيها -كما تعتقد الجمعية- ولم تَنْهَر طيلة تاريخ البشريّة، ولم تقع قبل اليوم تلك التغيّرات الجيولوجيّة المستحدثة المفاجئة، التي سَبَرَت مستقبلها هيئةُ المساحة الجيولوجيّة الغرّاء. نعم، هكذا تفيدنا جمعية التجديد الثقافي الاجتماعي، ولكن لا حياة لمن تنادي! وهذا ربما يُطَمئن الناس هناك أن لن تقع الواقعة بين عشيّة وضُحاها، أو، على الأقل، لن تبدأ من هناك! وأن الانهيارات المتوقّعة، التي خوّفوا الناس من دهيائها المظلمة، هي محض تخرّصات جيولوجيّين، وإنْ صَدَقوا، أو تهيّئات هيئات، وإنْ مَسَحَتْ وتنبّأت!.
(1) (2001)، مقدّمة ابن خلدون، تح. درويش الجويدي (بيروت: المكتبة العصريّة)، 1: 42- 43. ولعاملٍ من هذا الذي ذَكَر ابن خلدون نشأ التعظيم الكالح لعلوم اليونان وفلسفاتهم وفنونهم، وكأنهم نسيج وحدهم، لا قبلهم ولا بعدهم. والحقّ أنهم لا يعدون كونهم ورثةً نجباء.
(2) ع 9605، الثلاثاء 6 جمادى الأولى 1415هـ= 11 أكتوبر 1994م، ص 13.
(3) وبالمناسبة، فإن إعلان الهيئة العامّة للآثار في المملكة في (جريدة «الرياض» السعوديّة، بتأريخ 8 نوفمبر 2010)، عن اكتشاف أوّل أثرٍ فرعونيّ في الجزيرة العربيّة، وهو نقشٌ هيروغليفيّ على صخرةٍ ثابتة بالقرب من واحة تيماء يحمل توقيعًا ملكيًّا، أو «خرطوشًا مزدوجًا»، للملك رمسيس الثالث، أحد ملوك مِصْر الفرعونيّة، هو كلامٌ تنقصه الدِّقة، وقد يدلّ على عدم متابعةٍ لتاريخ المكتشفات الأثريّة الفرعونيّة في الجزيرة!.
(4) انظر مثلاً: صحيفة فَيْفَاء الإلكترونيّة، 21/ 4/ 1432هـ، على الرابط:
http://www.faifaonline.net/faifa/news-action-show-id-8911.htm
(5) وما حَدَث في جبال فَيْفاء يحدث في الجبال المجاورة لها، كجبال بني مالك، إلاّ أن قمم جبال فَيْفاء مأهولة أكثر. فهذا -مثلاً- خبرٌ نُشر في جريدة «الجزيرة»، (الجمعة 3 صفر 1432هـ، العدد 13980، ص8)، عن قرية «البهرة» التراثيّة المهدّدة كذلك بالسقوط بسبب شقّ طريق، ويُخشى أن تصبح مثل رفيقاتها، أثرًا بعد عين. وقرية (البهرة) قريةٌ تراثيّة واقعة في مركز (عثوان بني مالك)، في محافظة الداير، صارت المباني فيها مهدّدة بالانهيار، بعد أن أصبحت معلّقة إلى جوار الطريق الذي لا تبعد عنه. ويُضيف الخبر: إنه سيكون الوضع كارثيًّا, إذا لم تتدارك الجهات المعنيّة الأمر، وتقيم جسرًا جانبيًّا يحيط بالمباني لحماية التربة المحيطة بها من الانهيار ومن ثَمَّ سقوط المباني, قبل دخول مواسم الأمطار التي غالبًا ما تحدث معها الانهيارات. واسم القرية مشتق من «الإبهار»، وهي باهرة بحقِّ بمبانيها العتيقة التي تعود لقرون طويلة خلت, والتي تنطوي على قيمة أثريّة لا تقدّر بثمن، وهي مَعلمٌ من معالم البلدة هناك، إذ تحتوي على عددٍ من المباني الجميلة المبنيّة من الصخور، بأشكال دائريّة وأخرى مربّعة، ظلّت شامخة ومقاومة لعوامل الزمن. نعم، ظلّت شامخة ومقاومة لعوامل الزمن والجيولوجيا حتى حلّت الفوضى العارمة، التي لا تراعي الإنسان، ولا الطبيعة، ولا التاريخ، ولا الآثار، ولا طبوغرافيّة الأماكن! وإنما «شَقُّ طريقٍ يعني شَقُّ طريق»، بلا دراسةٍ ولا تخطيطٍ ولا تحسّب للعواقب، فليكن ما يكون، المهمّ أن ينفّذ هذا المشروع أو ذاك! وحين تَظهر تداعيات تلك الأعمال الاعتباطيّة، تُعْزَى الأمور إلى ظواهر جيولوجيّة طبيعيّة نجمتْ بقُدرة قادرٍ في أفريقيا أو في البحر الأحمر! عن قرية (البهرة)، طالع الرابط:
http://www.al-jazirah.com/20110107/ln33d.htm
-
- الرياض
p.alfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify