حين كان «عبد العزيز مشري» في مرضه الذي غادرَنا بعده - رحمه الله – كانت معنيةً بمتابعةِ حالته كما لم يفعل بعضُ أصدقائه، وعندما قدَّمنا عددًا خاصًا عن «محمود درويش» عتبت كما لم يفعل كلُّ أصفيائه، وقرأنا العنوان الأولَ في شخصيتها «القوية» وهي اللطفُ والعطف تتوارى خلف العزم والحزم واختراق التابوهات الإبداعية، ولو آمنًّا بالأبويات لقلنا إنها المؤسسُ لقصيدة النثر، وإنها المدرسةُ الأهم – برغم ما سبقها من بدايات وإصدارات – التي تخرج فيها شعراءُ نثيرة «التسعينيات».
ملمحٌ إنسانيٌّ وتخصصيٌ أولي تكتمل صورتُه «الشخصيةُ حين احتفت بها اثنينيةُ خوجة، ونقلت الأنباءُ دموعَها وهي تحكي عن المؤثرين في مسيرتها من أهلها وخُلَّصها؛ فجاء العنوان الثاني، وهو الوفاءُ وعزْوُ الفضل لذويه، وكم هم الذين يظنون أنفسهم أرقامًا منفردةً تقوم بالعمليات الأربع والجهد الأجمع، مؤثرين الحديث عن ذواتهم داخل مدارات العصامية والسبق والتميز، حينًا بهدوء واستحياء، وأحيانًا بلجاجةٍ وفجاجة.
وجاء العنوان الثالث حين قرأنا مقالتها «الأربعاوية» المعبرة؛ فكنا أمام لوحة مؤلمة مبدعةٍ لم يخنْها الإيمانُ والصبر والاحتساب والإرادةُ، وكان العنوانُ شجاعتَها في القول ومواجهتَها في الفعل، واستعدنا حكايات التحديات التي خاضتها وهي تعبر بواباتٍ مدججةً بالحراس الذين ناوءُوا الحركة الحداثيةَ؛ فأطلقوا سهامهم ضدها «وسواها»، وخاضوا في انتماءاتهم وهُوياتهم، فما زادهم إلا يقينًا بتجربتهم وإخضاعها للمراجعة وتصحيح ما طالها من تصحيف.
كانت زوبعةُ «الثمانينيات» أشبهَ بالحلم، ولنا – ممن لم يشهدها «حضورًا لانشغالٍ أو تشاغل – أن نكتفي بقراءة تداعياتها بروح المتفرج وعقلِ الحياديِّ؛ فما ساءنا من أوارها سوى التهم «الظالمة» التي تفنن بعضُ المجتهدين النائين عن أجواء الشعر والنقد في توزيعها «جملةً وتنجيمًا «على الرموز الفاعلة حينها، ونال شاعرتنا الكبيرة أذىً كبير.
لم يعنِها الدفاع عن نفسها وتوجهاتها، ولم تستسلم للحصار المفروض حول اسمِها ووسمِها، وواصلت طموحاتها وأكملت دراساتها وعادت لجامعتها وأوراقها، وتصدرت الواجهة مرة أخرى دون أن تثير أو تستثير، وقرأنا الدرس الأهم في تجربتها وجيلها؛ حيث الحقيقة لا تخبو وإن توارت، وأنها المنتصرةُ ولو بعد حين.
تاهت أشرطتهم ورسائلهم وبحوثهم في عالم الملفات المطمورة، وتحررَ الجيلُ الألفي من وصاياتهم، وعاد الإبداع للإمتاع، وقد أدركنا زمنًا كان فيه بائع الخضار يحكي عن سوءات الحداثة ومروق الحداثيين، ووعينا من ولغَ في أعراض الشعراء والنقاد والمفكرين، ولم يزل بعضُ افترائهم قائمًا؛ فظلَّ الجدل مع من ظن سوءًا بهم وبهن لورود ذكرهم في منشوراتِ «الصحويين»؛ فقد بهتوهم دون أن يستغفروا علانيةً وبقي التدليسُ ووزره على من افتراه، حيث لا يغني شكلٌ عن سلوك، ولا مريدون عن توبة واعتذار وتكفير.
الدكتورة فوزية عبد الله محمد أبو خالد تمثل النسيجَ التكاملي في البناء المجتمعي؛ فهي من قلب نجد، ونشأت في مكة المكرمة، وارتبطت بأدباء الشرقية والجنوب والشمال، ودرست في لبنان والولايات المتحدة، كما صارت أستاذًا في علم الاجتماع بجامعة الملك سعود، وحضورها المنبري والإبداعي نقل صوتها الداخلي للخارج فباتت علامةً على التميز.
«غسان وطفول العقبي «يمثلان نقاط الارتكاز المضيئة لمسيرتها الإبداعية والحياتية، وهي ترى فيهما أملًا متصلًا نحو غدٍ جميل يكتملُ بدوائر الأجيال المؤتمنة على رسالة البناء والعطاء، كما أن مجموعاتِها الشعريةَ المترجمةَ لمعظم اللغات الحية، وكتاباتها وبحوثها المتخصصة تطمئنُها على رصيد الحياة الدائب.
الحياةُ سجال.
-
Ibrturkia@gmail.com
ملف خاص عن الدكتورة فوزية أبو خالد ص(12-15)