بدءا فقد أخرت رجلا، وعطلت أخرى، وأنا أهم بكتابة هذا الموضوع، ليس خشية من رؤية موضوعية مغايرة، ونقد متجرد من إخواننا وأخواتنا المثقفين والمثقفات، بل خوفا من الغيبة «الماكرة الحالقة» التي تمارس أحيانا عند «بعضهم وبعضهن» تحت غطاء الحوار، وتبادل الأراء، وتلاقح المعارف، لتنصب إلى ألوان من السباب والإيذاء والانتقاص؛ ولذا فهي غيبة «نخبوية» أشد فتكا وعنفا مما يتخيله عقل! وإذا استثنينا بعض الحالات المرضية التي تحتاج إلى «مصحات نفسية» لعلاجها، فإن هناك حالات أخرى تطعن وتشوي على نحو مفجع! بيد أني أقول بعد هذه التقدمة الموجزة المحزنة، وبعد أن انفلتت رجلاي من عقال غضبة متوقعة: إن من الملفت للنظر والتأمل، ذاك الحراك الثقافي الذي يأخذ عدة جلسات من جلسات واستراحات الفنادق لدينا، حين انعقاد «معرض للكتاب» أو «ملتقى» من ملتقيات أنديتنا المتنوعة، وهو حراك يأخذ طابع الحوارات بين مجموعات تقل عن الثلاثة أحيانا، وتزيد أخرى، وتتحول أحيانا إلى لون «رامز» من ألوان الاستعراض الفج، لدى ثلة من «المتميلحين والمتميلحات».
(وهو تعبير شعبي فصيح، لله در من وظفه! وأورده هنا لأنه يوضح الصورة تحديدا).
إنك لتحار في تلك الحوارات واللقاءات الجانبية التي تعقد، فهنا مثقف تنويري يناصح شاعرة شابة! وهناك شاعر يصدح بشعره أمام أخريات، في أقصى اليسار مثقف آخر، قيل إنه مقالي، وقيل بل شاعر، وقيل في أثر ضعيف إنه ناشط في كل شيء! يتحدث أمامهن وأمامهم عن قمع السلطة، وظلم المجتمع، ورحلة الكفاح والنضال التي يتأوه وهو يرويها، حتى لتتخيل أنك تستمع على حين غرة إلى (نيلسون مانديلا) وهي معاناة لا تتجاوز إذا أزلنا تراجيدية القص، وموهبة الممثل، وخصوبة الخيال، انتظاره لتجديد بطاقة الأحوال، أو قرض صندوق التنمية العقاري! وشعراوي ثالث: (من هدى شعراوي وليس من غيرها بالطبع) يقتحم يتحدث عن رؤيته للمرأة العصرية، ونقمته من النساء المحجبات اللواتي يؤخرن الركب، ورابع عليه سيماء الوقار والتدين يسر حديثا لأخريات! فيه فيما يبدو نصح وإرشاد، وربما كان فيه أيضا منافع أخرى! ومقالي يسهب في الحديث المتواضع الخجل، عن الضجة الكبرى التي يعانيها بعد كتابة بعض مقالاته، وسادس ضاع في «الطوشة» فهو في تلفت دائم، يمر من أمام أولات، ويسلم على أولات؛ عل وعسى وليت دعوة تأتيه للجلوس! وخامسة تسير روحة وجيئة، تسلم هنا، وتبتسم هناك، في حركة سريعة ونشطة تارة، وفي تثاقل متصنع أخرى، تلمحها منذ النظرة الأولى، تفتح نقاشا هنا، وتشعل آخر هناك، وأخرى تسير إلى غايتها في أدب ووقار لا تسلم من تعليق، أو سؤال...!
ثم تكون الطامة الكبرى -بعد كل هذا، وبعد أن تنتهي هذه اللقاءات - تكون حين يرسم المثقف الذكر أمام زملائه بطولة مضحكة، حيث يورد - دون أن يُسأل - أسبابا طريفة مصنوعة بحنكة ومهارة عن «الصدفة» التي أخرته عن موعد مهم ؛ بعد أن حاصرته بعض الأخوات المثقفات، وأجبرنه على الحديث معهن، وشكواه من حرجه منهن في كل ملتقى! وإن تعجب فاعجب أن «صاحبنا» هو ذاته الذي كان يبقي كلا عينيه مفتحتين، في صالات الجلوس والطعام، وفي الممرات، وعند القيلولة ومن بعد صلاة العشاء! يبقيها فاغرتين دون أن ترمش، بحجم فنجان قهوة عربي من النوع القديم جدا! خوفا من أن تفوته فرصة حوار، أو تنجو من طرحه أو كرته أو صوته أو ورداته أخريات! نعم ورداته! (ويتهمون الشرقي بأنه لا يعرف الرومانسية! خابوا وخسروا!) وكل ذلك الحرص بريء خالص، إنه من أجل الاستفادة، والتلاقح الفكري، وتبادل الرأي فقط! وبخاصة أنه يدور في العلن، ودون خلوة ؛ حتى لا يفتك بي «محتسب» غر جاهل، كبعض من رأيتهم في معرض الكتاب، يلبسون «مشلحين» أحدهما من قماش، والآخر من «جهل مركب» فاضح بأبجديات الشريعة المباركة !
إن من يرى استراحات فنادقنا أيام «الملتقيات ومعارض الكتاب» سيتأكد أننا أمام حراك ثقافي غير عادي! وهذا يتيح لي أن أقترح على زملائنا المثقفين أن نطالب «وزارة الثقافة والإعلام» بسن رؤية جديدة حميدة، تمكن أو تجبر، كل مثقف متزوج أن يصطحب زوجته معه؛ لحضور هذه اللقاءات الثقافية الرائعة، وأنا على ثقة من نجاحها، وبخاصة أنها سنة أخذ بها قلة من زملائنا الرائعين الذين يحضرون ومعهم زوجاتهم، في خطوة حضارية واعية راشدة!
وحين حضور زوجاتنا، فإنني سأتخيل وأتساءل أسئلة فيها من البراءة ما في قلوب بعض فرسان وفارسات هذه اللقاءات! فمن الأسئلة الأولى: كيف ستكون هذه الحوارات وأين ستكون؟ وما موضوعاتها؟ وكيف سيصدح الشعراء بأناتهم؟ والمثقفون الناشطون بمعاناتهم؟ والروائيون بتأريخهم...الخ؟ بل وإلى أي درجة من الحسن والبهاء ستكون ملابس المثقفين وعباءات المثقفات! وكيف ستكون إهداءات الكتب، وتبادل «الكروت» من الجانبين، وهل سنضطر في كل ملتقى إلى طباعة كروت جديدة؟ إنها أسئلة لا تمنع من أن أثق أننا لو وفقنا إلى إحضار زوجاتنا إلى هذه الملتقيات فسنثبت أننا حضاريون واعون، منتصرون لقضايا المرأة، بل وسنضمن أيضا توفيرا اقتصاديا مهما يضيع في المبالغة في «كي» الملابس، والعباءات وفي الوقوف أمام المرآة، وهو ما سيوفر علينا الشكوى دوما من التأخر الذي يصاحب بداية جلسات المعارض والملتقيات، وهو تأخر يدعو للألم من حالنا مع الوقت وإهداره، ويفضح النخبة التي تنظَر له وتقتله! كما أننا سنضمن أن «مواعيد النوم» ستكون في وقتها المناسب! وسنحفظ حناجر المثقفين الكثر المطالبين بحقوق المرأة من الصراخ والاستعراض في هذه الجلسات، إذ إن وجود زوجات المثقفين جوارهم ستشكل رسالة غاية في التعبير عن وعينا العميق بحقوقها.
إضافة إلى أننا سنقضي على ظاهرة غياب المثقفين عن المعرض ونشاطاته وندواته، بسبب إرهاق هذه الجلسات التي تأخذ وقتا غير قليل من الليل أو النهار! وسنقضي قطعا على عدم التركيز الذي يصاحب بعضنا حين تقديم الأوراق في بعض الملتقيات، حيث سيجد كل منا نفسه مضطرا للبقاء في غرفته وتحضير «واجبه» أقصد «ورقته»، وسيضطر من لا ورقة لديه إلى تصفح الصحف أو الكتب أو الإصدارات ؛ حين يخرج إلى هذه الاستراحات فيجدها خاوية على عروشها! بعد أن انفض أو هرب عمارها من الجنسين، رغبة أو رهبة! وسنريح ممرات واستراحات الفنادق من هذه اللياقة الصوتية والحركية الجبارة التي نملكها – فقط- في مثل هذه الملتقيات رجالا ونساء! ويمكن أن نحقق أمرا مهما آخر، وهو التقليل إلى أكبر حد ممكن، من حضور من «يرين» ويرون في هذه المعارض والملتقيات فرصة مواتية للسهر والنزهة والحش!
وكل أملي من وزارتنا وأساتذتنا وزملائنا رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة في أنديتنا الأدبية ألا يتحججوا اقتصاديا! فغرفة تتسع لمثقف «شاعر أو ناثر» تنويري يدافع عن قضايا المرأة، ستتسع لقرينته، ورفيقة دربه، وإن لم تتسع غرفته، فسيفرش لها عينيه لتكون إلى جواره! فهو ذو حساسية عالية في التعامل مع عموم النساء، فما ظنكم - بالله - برفيقة دربه!
وبعد، ستبقى هناك أسئلة حول المعددين! وغير المتزوجين من الجنسين! وحول العذر الجاهز بضرورة إحضار الأطفال أيضا! وضرورة بقاء أحد الوالدين مع الأولاد! وأسئلة أخرى أكاد أراها «تزفر وتشهق» الآن في أذهان بعض الزملاء والزميلات، غاضبة ثائرة؛ حين قراءتهم هذا المقال! ولذا أطلب منهم أن يتعوذوا بالله منها! وينظروا إلى المصالح الكبيرة التي سنجنيها من مثل هذا الاتجاه، الذي أدعو إلى «تأطيره» رسميا بحيث يصبح عادة نعتز بها! وندافع من أجلها، وندع «زامر الحي» يطرب ويبهج وينظم ويضبط معارضنا وملتقياتنا، بعد أن قتلته ثقافتنا، ورسخت فينا - ظلما - أنه لا يطرب...
أبها